بسجنه عشرين عاما والنفي مثل هذه المدة، ولم يلبث في السجن الا بضعة أشهر لتبدل الظروف وتغير الأحوال، فقد تولى الملك محمد المنصف باي، ونزلت جيوش المحور بتونس فأفرج عنه في ديسمبر ١٩٤٢، وهذا المناضل العنيد لا يرهبه السجن والمضايقات الاستعمارية فبمجرد خروجه من السجن استأنف النضال فنظم شؤون الحزب الحر الدستوري الجديد وتجديد تشكيلاته، وأصدر جريدة «إفريقيا الفتاة» الناطقة بلسان الحزب والتي خدمت القضية الوطنية بحماس وجد، وساهم في تحريرها شبّان وطنيون كرشيد إدريس. وعاد الزعماء المساجين إلى البلاد في ٩ أفريل ١٩٤٣ وظل مواصلا للعمل بنشاط إلى ٦ ماي من تلك السنة [وهو تاريخ دخول الحلفاء الى تونس] فغادر البلاد خشية الوقوع في قبضة الفرنسيين الناقمين عليه فالتحق أولا بإيطاليا ثم برلين وأخيرا بباريس. وحاول الالتحاق باسبانيا مرارا عديدة لكنه وجد صعوبات وممانعة من الألمان، وحاول ذات مرة الوصول إلى اسبانيا بواسطة قارب صغير وغرق هذا القارب في وسط البحر فقطع بقية المسافة سباحة حتى وصل الشواطئ الإسبانية، والقت عليه السلطة الإسبانية القبض لاشتباهها في أمره، ولم تطلق سراحه الا بعد أيام من البحث والتحري، وبقي بإسبانيا بضع سنوات برفقة جمع من إخوانه المناضلين ووجهت له دعوة في الالتحاق بمصر فنزل بالقاهرة يوم ١٠ جوان ١٩٤٦، وبذل نشاطا كبيرا في الصحافة المصرية وفي مكتب المغرب العربي للتعريف بالقضية التونسية كما عرّف بقضايا المغرب العربي. وفي مدة إقامته بالشرق كان كتلة من النشاط الدائب خدمة لوطنه فقد قام برحلات كثيرة وألقى المحاضرات العديدة في نوادي الأحزاب السياسية ونوادي الطلبة معرفا بقضية وطنه تونس وبقضايا المغرب العربي.
وفي ٢٣ نوفمبر ١٩٤٨ عينه الحزب للمشاركة في المؤتمر الإسلامي الاقتصادي المنعقد بباكستان وعرف فيه بالقضية التونسية وشهر بسياسة القمع الاستعماري فيها، وبعد انتهاء المؤتمر قبل دعوة حكومة باكستان فزار عدة مدن باكستانية وألقى فيها المحاضرات عن تونس وعن كفاح المغرب العربي في سبيل التحرر.
وكانت نهاية المطاف في هذه الجولة وفاة هذا البطل المناضل في ظرف عصيب كان وطنه ما زال في حاجة إلى كفاحه فقد لقي حتفه في اصطدام الطائرة التي كان راكبا فيها في جهة بثاور لاهور في يوم ١٣ ديسمبر. وهكذا طويت صفحة هذا المناضل الكبير ذي الحركة والنشاط والشجاعة والعزيمة.
ترك تأليفا وحيدا هو «هذه تونس» المطبوع في القاهرة سنة ١٩٤٨، وهو كتاب تاريخ للبلاد لا سيما في العصور الحديثة ولسير الحضارة فيها إلى أن ابتليت بالاحتلال الفرنسي وتتبع فيه أطوار الكفاح ضد الاستعمار، وبسط بأطناب أحوال تونس السياسة والاجتماعية والاقتصادية في عهده، وفضح طرق وأساليب الاستعمار في الاعتداء على الحريات وإصدار القوانين الجائرة التي تخدم غاياته وأغراضه ومحاولة هذا الاستعمار إدماج الشعب وتتبع خطر