للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حيث يتعلم الطالب من دروسه كيف يلتقط جواهر المعاني من أقوال المؤلفين زيادة عما يستفيده من علم.

والأستاذ لم يأخذ في دروسه بطريقة الإملاء كما يصنع كثير من الأساتذة إلا أن له مزيد التحقيق والكشف عن أسرارها بوجه يدلك على ما له من سعة العارضة والغوص في أعماق المباحث إلى أبعد غاية.

وعادته أن لا يورد بحثا أو جوابا عن اعتراض إلا بعد التثبت والاستناد فيه إلى قاعدة مسلمة ومن هنا كان الغالب على إفهامه الاستقامة وإصابة المرمى، وإذا عثر على خلل لبعض المؤلفين التمس له المعذرة ما أمكنه وإلا قرّر وجه الخلل ونبّه على مكانه بأدب ولطف في البيان، وكان له عقل أشرب قوانين المنطق فلا يروح عليه الزيف وإن صدر من عظيم أو خرج من زخرف من القول ومن أشهر دروسه وأدلها على مقدرته الفائقة درسه للمواقف لعضد الدين الإيجي بشرح السيد الشريف الجرجاني الذي ابتدأه في حدود سنة ١٢٨٥/ ١٨٦٧ ولبث في تدريس هذا الكتاب عشرين سنة أو أكثر حتى أتى على ختمه، ويوم ختمه أنشد تلامذته القصائد البليغة من إنشائهم وانقطع لهذا الدرس انقطاعا عديم النظير، وأظهر من الضلاعة في العلوم الحكمية ودقة الفهم، وبراعة التقرير معاني سارت بها الركبان، ولإعداد هذا الدرس يعقد مجلسا ليليا في منزله يشهده كثير من العلماء الذين يحضرون الدرس بجامع الزيتونة للتذاكر في مسائل درس الغد فيهتدي بتوقفاتهم وإفهامهم إلى مقاعد التحرير من الدرس، ويفارقونه والمسائل عندهم وعنده لا تزال محاطة بشيء من الغموض محتاجة إلى طريق فيصل في تقريرها وتصويرها، وبعد انصرافهم يخلو بنفسه للمطالعة فيجيء إلى الدرس صباحا وقد قتل مسائله بحثا وتحقيقا.

وقد حضر هذا الدرس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في زيارته الأولى لتونس سنة ١٣٠٠/ ١٨٨٣ وأعجب بقيمة المترجم ودرسه أيما إعجاب، وناهيك بقيمة الشيخ محمد عبده في العلوم الحكمية.

<<  <  ج: ص:  >  >>