وهي غاية الخلق وكمال سعادتهم وصلاحهم. وهذا الاعتراف منك بربوبيته وقدرته وعزته يتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه، وأنه في كل ما أمر به عليمٌ حكيمٌ، لم يأمر عبده لحاجةٍ منه إلى أمره به، ولم ينهه بخلًا عليه بما نهاه عنه، بل أمره رحمةً منه به وإحسانًا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده، وما لا صلاح له إلَّا به، ونهاه عمَّا في ارتكابه فساده في معاشه ومعاده. فكانت نعمته عليه بأمره ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما، كما قال سبحانه في آخر قصتك مع الأبوين:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ اُلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اِللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف: ٢٥]. فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خيرٌ من المال والرِّياش (١) والجمال الظاهر، فالله سبحانه خلق عباده وجمَّل ظواهرهم بأحسن تقويم، وجمَّل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم. ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك وإيثارك معاداته على طاعته وموالاته من أحسن الصور، وأنت مع الملائكة الأكرمين. فلمَّا وقع ما وقع جعل قُبح صورتك وبشاعة منظرك مثلًا يُضرب لكل قبيحٍ؛ كما قال تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ اُلشَّيَاطِينِ}[الصافات: ٦٥]. فهذه أول نقدة تعجلتها من معصيته.
ولا ريب أنك تعلم أنه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وأغنى الأغنياء، وأرحم الراحمين، وأنه لم يأمر العباد إلَّا بما فعلُه خيرٌ لهم وأصلح وأنفع وأحسن تأويلًا، وأعظم عائدةً من تركه، كما أنه لم يرزقهم إلَّا ما تناولُه أنفع لهم من تركه، فأمرُه لهم بما أمرهم به كرزقه لهم ما رزقهم إيَّاه.
(١) الريش والرياش بمعنًى، وهو اللباس الفاخر. «الصحاح» (٣/ ١٠٠٨).