فليتأمَّل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العِبَر، فإنه لم يأتِ في المتأخِّرين مَن حصَّل من العلوم العقلية ما حصَّله، ووقف على نهايات أقدام العُقلاء، وغايات مباحث الفُضلاء، وضرب بعضَها ببعضٍ ومَخَضها أشدَّ المخض، فما رآها تَشفي علَّةَ داء الجهالة، ولا تُروي غُلَّةَ ظمأ الشَّوق والطلب، وأنها لم تَحُلَّ عنه عُقدةً واحدةً من هذه العُقَد الثَّلاث التي عَقَدها أرباب المعقولات على قافية القلب، فلم يستيقظ لمعرفة [ب ٨٥ أ] ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله.
وصَدَقَ والله، فإنه شاكٌّ في ذات ربِّ العالمين: هل له ماهية غير الوجود المطلق يختص بها، أم ماهيَّته نفس وجوده الواجب؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في صفاته: هل هي أمور وجودية، أم نِسَبٌ إضافية عدمية؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في أفعاله: هل هي مقارنة له أزلًا وأبدًا لم تَزَلْ معه، أم الفعل متأخر عنه تأخُّرًا لا نهاية لأمده، فصار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عقدتها. فتنظر في كتبه الكلامية قول المتكلمين، وفي كتبه الفلسفية قول الفلاسفة، وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ويجلس بينهما حائرًا، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد؛ فإنه مع بَحْثِه ونظره وتصدِّيه للرد على الرَّازي حتى يقول في قصيدةٍ له (١):
(١) الأبيات باختلاف يسير نسبها إليه الصفدي في «الوافي بالوفيات» (١٨/ ٤٦)، وابن شاكر في «فوات الوفيات» (٢/ ٢٦٠).