ثم قال:«والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلَّا بعد استبراء هذه الشُّبه، وطريقنا الذي سلكناه بريءٌ من هذه الآفات، سليمٌ من هذه الريب».
قال:«وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة التي دلائلها مأخوذة من طريق الحسِّ لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلًا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -».
قال:«وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه لإدراك وجوه الأدلة، ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها، ولا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها».
قلت: وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحسِّ والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يُسميها الله سبحانه آياتٍ بيناتٍ، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها.
فإن انقلاب عصًا تُقِلُّها (١) اليد ثعبانًا عظيمًا يبتلع ما يمرُّ به، ثم يعود عصًا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدِّين في هذه العصا.
وكذلك اليد [ق ٩١ أ] وفَلْق البحر طُرقًا والماء قائمٌ بينهما كالحيطان،
(١) أقل الشيء يقله: إذا رفعه وحمله. «النهاية في غريب الحديث» (٤/ ١٠٤).