وفي يوم أحد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم سيفه فقال:(من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام الزبير بن العوام، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه الزبير، ثم قام: أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: يا رسول الله وما حقه؟! قال: حقه أن تأخذه فتضرب به القوم حتى ينثني أو كلمة نحوها)، فأخذه رضي الله عنه وأرضاه وأخرج من جيبه عصابة حمراء وربط بها رأسه، فقالت الأنصار: لبس أبو دجانة عصابة الموت، قال الزبير رضي الله عنه وأرضاه: فوقع في نفسي قلت: أنا ابن عمته، أي: ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن قريش وأول من طلبه فلا يعطيني إياها، ثم يعطيه هذا، فلننظر ماذا يصنع؟ فأصبح الزبير يحاول قدر الإمكان وهو يقاتل أن يرى إلى صنيع أبي دجانة رضي الله عنه وأرضاه، قال: فأخرج عصابة حمراء فربط بها رأسه فسمعت الأنصار تقول: أخرج أبو دجانة عصابة الموت وأخذ ينشد: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل أضرب بسيف الله والرسول.
ثم قال: فوالله ما قابل أحداً إلا قتله، قال: وفي القوم -أي: في الكفار- رجلٌ كلما قابل مؤمناً انتصر عليه، فسألت الله أن يلتقيا -أي: أبو دجانة وهذا الكافر- قال الزبير -في رواية ابن هشام - قال: فلما التقيا ضرب ذلك الرجل أبا دجانة فاتقاه بدرقة كانت في يده، ثم ضربه أبو دجانة فقتله، ثم مضى في الناس فسمع امرأة تحمس الناس -أي: تحث أهل الكفر من قريش على الحرب، وهو لا يدري أنها امرأة- فرفع السيف عليها، فلما رفع السيف عليها أحدثت صوتاً فعرف أنها امرأة، قال الزبير: فرأيته رفع السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم يعني: الله أعلم ورسوله أعلم لمن يعطيان السيف، ثم بعد ذلك أجاب أبو دجانة عن سبب امتناعه عن ضربها فقال: أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أضرب به امرأة، وهذا من أقدار الله التي لا يعلمها أحد، فقد كانت تلك المرأة: هند بنت عتبة أم معاوية زوجة أبي سفيان، والتي كتب الله لها أن تموت على الإيمان، فحماها الله بقدره جل وعلا.
موقف آخر: في غزوة المريسيع أو بني المصطلق وقعت حادثة الإفك، فلما كثر الحديث في المدينة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وقال:(من يعذرني من رجل آذاني في أهلي)، يقصد: عبد الله بن سلول، فقام أسيد بن حضير من الأوس رضي الله عنه وأرضاه وقال: يانبي الله! قل لنا من هو؛ فإن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أخذناه وقتلناه، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وقال: كذبت، والله لا تقتله ولا تستطيع قتله، وكل ذلك أمام نبي الأمة، الآن نحي الحديث هذا جانباً حتى تعرف أن العلم يحتاج إلى رجل موسوعي، لا رجل في قلبه هوى، بل رجل يطبق الأحكام كما يريد كتاب الله، كل الناس تقول: الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله، لكن الأمة لا تحتاج إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط فهما موجودان، بل تحتاج إلى رجل يطأطئ رقبته أمام كتاب الله وسنة رسوله، ويفهمها فهماً صحيحاً، فمن لا يفهمها لا يستطيع أن يقود الأمة، ومن فهمهما ولم يذعن لهما فلن يستطيع أن يقود الأمة، لكن يقود الناس من فهم الكتاب والسنة وطأطأ رأسه لا هواه أمام كتاب الله وسنة رسوله.
لقد كان ابن باز رجلاً محبوباً في الناس، ولن أتكلم عن حي حتى لا يفتن، الآن لو جاء ابن باز وقال: إن فلان الصحفي يؤذيني، فجاء رجل وقال: أنا أنتقم لك -يا شيخ- من هذا الصحفي فرضاً، فجاء رجل آخر من قرابة هذا الصحفي وقال: والله ما تؤذيه، لقال الناس: أنت علماني أو ليبرالي، فهذا رجل يؤذي ابن باز وأنت تدافع عنه! هذا وهو ابن باز يخطئ ويصيب، ومع ذلك قال سعد بن عبادة لـ أسيد بن الحضير والرسول حاضر: كذبت، والله لا تستطيع أن تقتله، فسكّت النبي صلى الله عليه وسلم الناس، ونزل من المنبر، ولم يقل كلمة سوء في سعد بن عبادة؛ لأن الدافع عند سعد هو نصرته لعشيرته، وولائه الزائد لقبيلته، وحبه للخزرج؛ لأنه كان سيد الخزرج، ومعاذ الله أن يكون سعد بن عبادة يريد إيذاء الله ورسوله، وإلا لكفر وخرج من الملة، ومن هنا تفهم أن كثيراً من الناس قد يفعل الخطأ، لكنه لا يفعل الخطأ بناءً على النية التي تراها أنت، فمثلاً: يأتي شخص ما ويشرب الدخان عند الحرم، وقد يكون هذا الذي يشرب الدخان يعرف أنه حرام ومنكسر في قلبه ونادم لكنه لا يستطيع أن يتغلب على هذه المعصية في نفسه، فلا تأتي إليه أنت وتقول: أنت تحاد الله ورسوله عند مسجد رسول الله، يقول صلى الله عليه وسلم:(مابين عير إلى ثور المدينة حرم، من أحدث فيه حدثاً أو آوى فيه محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، فتنزيل هذا الحكم على هذا الشخص خرق واضح للمعتاد، بل يلزمك أن تطبق الإيجاب عليه كما طبقت المنع، فلو قال لك هذا الرجل: أنا لا أفوت صلاة الفجر ولا العصر في حياتي كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى البردين دخل الجنة)، فطبق عليّ المنع كما طبقت عليّ الإيجاب، وأنت لا تستطيع أن تشهد له بالجنة، فتطبيق الأحداث على الأعيان جزافاً أمر لا يقدم عليه إلا جاهل، ويجب أن تعلم أن طالب العلم هو من يتكلم في الأوصاف لا في الأعيان، فالذي يتكلم في الأعيان هم: القضاة، فهو يحكم على شخص بعينه لأنه قاضٍ، أما الذي يتكلم علمياً فهو يتكلم على الوصف لا على العين، وقد تجد إنساناً يكفر شخصاً لم يره في حياته ولم يجلس معه، فالمقصود من هذا: أن الإنسان يفهم علمياً مراد القائل، والسبب الدافع للعمل قبل أن يطلق أحكامه.