للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر بعض ما نعت الله تعالى به نفسه]

وإن من الآيات التي نعت الله بها ذاته العلية قوله جل ذكره في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤].

فبين جل وعلا فيها أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فبدأ جل وعلا بخلق الأرض أولاً في يومين، ثم استوى إلى السماء وهى دخان فسواها في يومين، ثم أكمل خلق الأرض جل وعلا، قال سبحانه: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:٣٠] ولم يقل: (خلقها) لأنه سبق أن خلقها من قبل، كما بين جل وعلا ذلك في سورة فصلت، فخلق ذلك جل وعلا في ستة أيام ليعلِّم خلقه الأناة، وإلا فهو تبارك وتعالى قادر على الخلق بقوله سبحانه: (كن) فيكون.

ثم قال جل ذكره: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] والفعل (استوى) في القرآن جاء على ثلاثة أنماط: جاء متعدياً بحرف الجر (إلى)، ومعناه الانصراف إلى الشيء، قال سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:١١] وهذا بعد أن خلق الأرض أولاً في يومين.

وجاء غير متعد، وهذا معناه النضج والكمال والتمام، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص:١٤].

وجاء متعدياً بحرف الجر (على) والمقصود منه العلو، قال جل وعلا: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:١٣] أي: إذا علوتم، وهنا قال جل ذكره وعز ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- مؤمنون بأن الله جل وعلا مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته بائن عن خلقه، وأن الله تبارك وتعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، وغني عن كل خلقه، بل كل خلقه -حملة العرش وسائر الخلق- مفتقرون إليه جل جلاله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥].

قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:٥٤] أي: يجعل الليل غاشياً للنهار مذهباً لنوره وبهائه، وقال في سورة أخرى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ} [الحديد:٦] والليل والنهار مخلوقان من مخلوقات الله أجراهما الله جل وعلا وجعلهما موئلاً للأعمال الصالحة، والموفق المسدد من جعل النهار مقاماً لمعاشه وجعل الليل مقاماً للوقوف بين يدي ربه تبارك وتعالى، قال الله يؤدب نبيه ويعلم سيد خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:٦ - ٧] أي: اجعل النهار لمعاشك وقضاء حوائجك، والليل قف فيه بين يدي ربك وخالقك ومولاك.

ونعى الله جل وعلا على أهل الكفر أنهم لم يعرفوا قدر الليل فيقوموا فيه بين يدي الله، فقال سبحانه وبحمده: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:٢٧].

ولله عبادات في النهار لا تقبل في الليل، وله طاعات في الليل لا تقبل في النهار، وأفضل الليل جوفه الآخر، والليل جملة أفضل من النهار، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٦ - ١٧])، ثم قال جل ذكره: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فما الشمس والقمر والنجوم إلا آيات من آيات الله تجري بقضائه وقدره، لحكمة اقتضتها مشيئته وإرادته جل وعلا.

قال سبحانه يبين إذعانها لأمره وانقيادها لمشيئته: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٨ - ٤٠].

بعد أن ذكر هذه الآيات قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] واللام هنا لا الملك المطلق الذي لا يكون إلا لله.

ثم قال جل وعلا: {الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] ففصل بينهما بواو العطف، والواو في اللغة الأصل فيها أنها تقتضي المغايرة، والخلق غير الأمر، فالخلق المراد بها جميع المخلوقات، وأمره: كلامه تبارك وتعالى، قال جلا ذكره: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥] صدقا في أخباره وعدلا في أوامره ونواهيه؛ وبهذه الآية.

احتج الإمام أحمد رحمه الله على المعتزلة على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فاحتج بقول الله جل وعلا: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فإن الله جل وعلا فرَّق بين الخلق وبين الأمر، فالقرآن كلام الله جل وعلا وهو من أمره تبارك وتعالى.

ثم قال سبحانه خاتماً هذه الآية التي عرّف فيها بذاته العلية وأثنى بها على ذاته جل وعلا: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤] والفعل (تبارك) لا يأتي منه مضارع ولا أمر، ويسميه علماء النحو فعلاً جامداً، أي: غير متصرف، ولا يقال إلا للرب تبارك وتعالى، فلا يقال لأحد غير الله تبارك؛ لأنه جل وعلا وحده الذي تعاظم وتقدس، ومنه البركات، ومنه الخير العميق، كما جاء في الحديث (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت ربنا وتعالي).