[المودة والرحمة]
الخصيصة الثالثة في المجتمع المحمدي: التواد والتراحم.
أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم, فيلقي أبا بكر وعمر في ساعة لم يكونا يخرجان فيها, فقال: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا الجوع, فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا -والذي نفسي بيده- ما أخرجني إلا الجوع)، فهذا النبي الأمي لم يكن غنياً ولم يكن فقيراً, تمر عليه أيام يجد فيها ما يأكله, وتمر عليه أيام لا يجد فيها ما يطعمه، وبهذه النظرة الكاملة يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦ - ٨].
فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر رضوان الله تعالى عليهما قد أخرجهما الجوع, فقال: (وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع)، ومن هنا تعلم أن بعض الفضلاء من الناس إذا قال كلمة (أنا) تعوذ, وقال: أعوذ بالله من كلمة (أنا) , ولا يوجد تثريب شرعي في أن يقولها الإنسان, وإنما نقمها الله على فرعون وعلى إبليس لما بعدها لا للفظة نفسها؛ لأن إبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، وفرعون -عياذاً بالله- قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤].
ولكنها تكره إذا كان طرق الإنسان باباً فسئل من أنت؟ فقال: أنا، ففي مثل هذه الحالة لا تفيد معنىً، ولا تؤدي جواباً، ولا يعرف من أنت ما لم تسم نفسك, فمن أجل ذلك كرهها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع المقيد.
فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر، فأتوا بيت أبا الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن في الدار، بل كانت زوجته, فلما رأتهم فرحت, ولخوفها من أن يذهبوا قالت: مرحباً وأهلاً, وأدخلتهم الدار, فجاء أبو الهيثم، فلما رآهم قال: ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني.
وصدق رضي الله عنه وأرضاه, فلم يكن يومها على وجه الأرض أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فبادر إلى عذق في النخلة فأخرجه بسراً وتمراً ورطباً, وقدمه لهم وقال: تخيروا.
ثم عمد إلى المدية -وهي السكين- فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في يده؛ فتأمل -أيها المبارك- كيف يربي النبي عليه الصلاة والسلام الأمة، فقال: (إياك والحلو)، أي: لا حرج، ولكن لا تذبح شاة حلوباً يستفيد منها أهل الدار، فلو منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم من أن يذبح لمنعه من إكرام ضيفه، وهذا لا يعقل أن يفعله عليه الصلاة والسلام, وفي نفس الوقت كان يخشى على أهل البيت الضرر، فقال: (إياك والحلوب) وهكذا العاقل في تعامله مع من حوله في القضايا التي تلج عليه مع الناس، فلا يمكن أن يسلب الناس ما يفخرون به ويفرحون به, وفي نفس الوقت لا يطلق العنان حتى تصبح المسألة مسألة ضرر، فتنقلب من إكرام ضيف إلى ضرر بالأهل, فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب).
ونظير هذا في السنة أنه في يوم أحد كثر القتلى من المسلمين حتى بلغوا سبعين, فحملت الأنصار قتلاها تريد أن تدفنهم في المدينة, فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الشهداء في أماكنهم, والعدد سبعون, والصحابة الذين نجوا كانوا مرهقين جداً، حتى إنهم صلوا الظهر قعوداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم, فعاد عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبه الأمثل, فلم يوافق على أن ينقلوا القتلى إلى المدينة, حتى تشهد أرض أحد لهم, وفي نفس الوقت لا يريد أن يكلف هؤلاء المثخنين بالجراح بأن يحفروا سبعين قبراً, فقال: (اجعلوا الرجل والرجلين والثلاثة في قبر واحد)، فإذا جعلنا ثلاثة من قتلى المسلمين وشهدائهم في قبر واحد قل عدد القبور, فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة مثلى تجمع بين عدم إرهاق الصحابة ودفن الشهداء عند جبل أحد في أرض المعركة.
وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب)، فذبح لهم رضي الله عنه وأرضاه, فقال صلى الله عليه وسلم بعدها لصاحبيه: (لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما يحمله في قلبه من مودة ورحمة مع علو كعب في الفهم -كأنه عرف أن أبا الهيثم ليس له خادم, فلما فرغ من ضيافته قال له: (ائتنا إذا جاءنا سبي) فلما قدم بسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو الهيثم وقد كان السبي غلامين, فقال صلى الله عليه وسلم: (اختر أيهما شئت) فقال: يا رسول الله! اختر لي: فقال عليه الصلاة والسلام كلمته التي سارت بها الركبان وضربت مضرب المثل: (المستشار مؤتمن) يعلم الأمة أن من استشارك فقد قلدك أمانة في عنقك, فاتق الله جل وعلا فيمن استشارك لتكون بطانة خير له, فتخبره بما ينفعه, وتدله على الصواب, ولا يقع في مثل هذه الأحوال غيبة، فقال صلى الله عليه وسلم ليبين للأمة الطريق المثلى في الحكم على الناس: (اختر هذا فإني رأيته يصلي) فلما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الصلاة على النفس قال لهذا الصحابي الجليل: (اختر هذا فإني رأيته يصلي)، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (واستوص به معروفاً) شفقة على هذا الرقيق, فرجع أبو الهيثم مع الرقيق الذي أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم إياه من السبي, فدخل على زوجته يظهر الفرح على أسارير وجهه, فأخبرها الخبر, ثم قال لها: وإن نبي الله قال لي: (واستوص به خيراً أو معروفاً) فقالت المرأة الحاذقة: يا أبا الهيثم! أعتقه؛ فبهذا تتحقق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم, ولم يكن مراد رسول الله -فيما نعلم- أن يعتقه, ولكن المرأة أرادت أن تبلغ الكمال في حمل حديث نبي رب العزة والجلال صلوات الله وسلامه عليه, فأعتقه, فبلغ خبر عتقه النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن المرء لا بد له من بطانة، إما بطانة خير، وإما بطانة سوء, وقصده أن هذه المرأة وهذه الزوجة كانت بطانة خير لزوجها بما أشارت به عليه وقد سقنا الحديث لنبين التواد والتراحم في المجتمع المدني آنذاك, والنماذج على هذه كثيرة، ولكننا حدثنا ببعضها.