عجزت قريش عن الإيذاء الجسدي الفردي فعمدوا إلى الحصار العام فقدموا على أبي طالب وطلبوا منه أن يسلم إليهم ابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه فأبى، فقرر القرشيون مقاطعة بني هاشم لا يمازحونه ولا يبتاعون منهم، فآوى أبو طالب ببني هاشم وبني المطلب في شعب لهم يقال له: شعب بني هاشم، ومكث الحصار ثلاث سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله جل وعلا به عليم، وكان خلال مدة الحصار أبو طالب على كفره إذا هجع الناس وناموا يعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو هم أحد بقتله يقتل ابنه بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك كله -ولله الحكمة البالغة- لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا فمات على الكفر؛ ولذلك حكمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، وبعد أن انتهى الحصار أو قبل أن ينتهي لا يخلو صراع بين الحق والباطل بنشوء أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم: دول عدم الانحياز، كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا بمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان ما دعا إليه رؤساء قريش وزعماؤهم فتعاونوا على نقض المعاهدة.
وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم عندما يرى أهل المروءات الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان أن يستفيد منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة، ويبذل طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولا يصادمهم حتى لا تخسر الدعوة سنداً وقوة لها، فهؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان، لكن كانت في قلوبهم رحمة، وفي أنفسهم شهامة، ومن خصالهم المروءة وظفوها لنقض المعاهدة، وتم لهم ما أرادوا، ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار، وبعد خروجهم من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد، وقيل: بين موتهما ثلاثة أيام، فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان، فخرج إلى الطائف وكانت أقرب الأماكن إلى مكة، خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا، فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم.