للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر قصة مريم في السورة]

ثم بعد ذلك ذكر الله جل وعلا قصة مريم البتول رضي الله تعالى عنها، وذكر فيها ميلاد المسيح عيسى بن مريم، وقضية المسيح عليه الصلاة والسلام قضية كبرى، ولعل الله يوفقنا لبيانها.

فمريم -كما قد علمتم في أول الدرس- امرأة نشأت في بيت من بيوت الله وكانت على قدر كبير من الصلاح والتقوى حتى إن ملائكة الله كانت تزورها في محرابها، قال الله جل وعلا ينبئ عن ذلك: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:٤٢ - ٤٣].

وهذا كله قبل أن تلد المسيح عيسى بن مريم، بل إن الملائكة بشرتها بالمسيح قبل أن تلد وهذا من فضل الله جل وعلا على تلك المرأة التي وصفها الله في القرآن بقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:٧٥]، فشهد الله جل وعلا لها بالصديقية.

فمضت هذه المرأة تعبد الله وتوحده وتذكره وتهلله سبحانه وتعالى على الوجه الذي ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، حتى خرجت ذات يوم تريد شيئاً من الراحة شرقي بيت المقدس، وكانت -على قول بعض المفسرين والمؤرخين- تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً.

قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:١٦ - ١٧]، فبعث الله جل وعلا إليها ملكاً وهو على الصحيح والله أعلم: جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فتمثل لها بصورة شاب وضيء الوجه، تام الخلقة، حسن الخلق، قال الله جل وعلا: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:١٧]، أتاها وهي امرأة عذراء، لم تتزوج، وتقابل شاباً أخبر الله أنه وضيء تام الخلقة بشراً سوياً، ومع ذلك لم تفتتن به، ولم تبغي، ولم تهمز، ولم تغمز له، ولم تكشف عن نفسها حجاباً بل إنها خافت على نفسها دون أن يصدر منه أي دليل على أنه يريد بها سوءاً, فهو لم يتكلم معها ولم يطلب منها أمراً محرماً ومع ذلك من شدة عفافها وحيائها وخوفها من الله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:١٨].

فاستعاذت بالله جل وعلا منه ودعته إلى أن يتركها قائلة: {إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:١٨]، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنت تقياً فتخلى عني أو فاتركني أو فلا تلمسني، يقدر بحسبه، لكن هذا هو الصحيح في تفسير الآية؛ ولذلك قال العلماء: علمت أن التُقى ذو نهيه فوصفته وأخبرته وذكرته بتقوى الله جل وعلا.

وفي هذا درس بليغ لأخواتنا المؤمنات: أنه ليس هناك زينة أعظم من الحياء، فالمرأة تتزين حسياً ومعنوياً، أما حسياً فلا حرج فيه إن كان لزوجها قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:١٨]، ولكن أعظم زينة معنوية هي: الحياء؛ لأن الشيء إذا كان مستتراً مكنوناً تشتاق النفوس لرؤيته، أما إذا كان الشيء معروفاً للعيان فإن الناس تحجم عنه، ولذلك أصحاب الغوص والبحار ينزلون إلى قاع البحار للبحث عن الدر المكنون، أما ما يعلو على سطح البحر من أشياء معروضة فإن أهون الصيادين أو أهون من الغواصين أو أهون الباحثين يعرض عنه ولا يريده.

فالله الله يا نساء المؤمنات! وهن يسمعنني الآن أن يستوصين بأنفسهن خيراً، وأن يعلمن أن الحياء والعفة والتزام وتقى الله جل وعلا هي الزينة العظمى، وهي الكساء الأجل والأجمل، وهي ما يدعو الصالحون والأخيار والرجال ذوي الكرامة والشهامة أن يطلبوا أياديكن.

أما إن كنتن غير ذلك -والعياذ بالله- فإنما يهفوا إليكن الرعاع من الناس والسوقة والأقوام الذين لا خلاق لهم، والمرأة الأبية العفيفة لا ترضى بأولئك، ولا ترضى أن تكون قرينة لمثل أولئك ممن لا خلاق لهم، وهو في حقها أعظم من حق الرجل؛ لأنه ربما تاب بعد ذلك وتزوج أما أنت أيها المؤمنة! فإن وبال ذلك قد يبقى وقد لا يُغسل وقد لا يُترك، وقد يبقى وشمة عار، أسأل الله لنا وللمؤمنات إن يحفظهن الله من كيد الأشرار، ومن زيغ الفجار إنه جل وعلا حفيظ عليم.

ثم نقول: في هذا بيان خشية الله فقد ورد أن جبرائيل لما قالت له مريم: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم:١٨]، قيل: إن جبرائيل لما سمع كلمة الرحمن انتفض فرقاً حتى قيل: إنه عاد لهيأته الطبيعية التي خلقه الله تعالى عليها، وهذا ليس ببعيد؛ لأن الملائكة أعلم الناس بربها تبارك وتعالى، فطمأنها وهدأ خاطرها، وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٩]، فتعجبت! {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم:٢٠]! الغلام لا يأتي إلا من زواج مشروع أو من بغي محرم، ونفت عن نفسها كلا الأمرين: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:٢٠]، أي: عن طريق الزواج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:٢٠]، فقال لها جبرائيل: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} [مريم:٢١]، أي: هذا الغلام، {آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم:٢١]، لكونه نبي، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:٢١]، أي: هذا أمر منتهٍ؛ لأنه قد خُطَّ في اللوح.

فنفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى دخلت في فرجها ثم إلى رحمها ثم حملت كما تحمل النساء إذا جامعهن الرجال، قال الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:٢٢]، اختلف أهل العلم رحمة الله تبارك وتعالى عليهم في مدة الحمل فمنهم من قال: إنها ساعات معدودة ومنهم من قال: إنها ثلاثة أيام، ومنهم من قال: غير ذلك.

والصواب أن يقال: إن الأمر يبقى على أصله أنه تسعة أشهر؛ لأنه لو كان خلاف الأصل لأخبر الله جل وعلا به، لكن لما سكت الله عنه، فإن الأمر يحمل على ما يجري على غيرها من النساء، والعادة أن المرأة تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر، {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:٢٢]، أي: بعيداً، فلما اشتد عليها المخاض قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:٢٣]، أي: ألزمها المخاض، وما يكون من ألم يصيب المرأة إذا ولدت، {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٣]، قيل: إنها كانت يابسة.

فلما أحست شدة ألم الولادة خافت أن تفتن في دينها، وماذا تقول للناس إن عادت به إليهم؟ ولم تعلم أن الله سيظهر دلالة صدقها.

{قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:٢٣]، ومنه أي: من هذه الآية أخذ بعض أهل العلم جواز تمني الموت عند نزول الفتن، فلقد قال صلى الله عليه وسلم في شروط الساعة: (إن الرجل يمر على قبر الرجل يقول: ياليتني مكانك! مما يرى من الفتن)، عافانا الله وإياكم قبل ذلك اليوم.

{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:٢٣ - ٢٤]، قيل: إنه جبريل، وقيل: إنه عيسى، الظاهر -والله أعلم- أنه جبرائيل، {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:٢٤]، والسري في لغة العرب: هو الجدول من الماء الصغير أو قيل: هو النهر الصغير.

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:٢٥]، فلما هزت جذع النخلة تساقطت عليها الرطب، وفي قول الله جل وعلا لها وأمره بأن تهز جذع النخلة دليل على أن الأمور مربوطة بأسبابها -وإن كان فضل الله واسعاً- وبيان للعبد أن يتبع الأسباب، ولذلك قيل: ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب ولو شاء ألقى الثمر من غير هزة ولكن كل شيء له سبب فلما هزت واطمأنت وقرت عيناً كما أراد الله لها أوصاها الله جل وعلا ألا تتكلم، وأن يكون شعارها الصمت، {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:٢٦]، أي: امتناعاً عن الكلام، {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:٢٦].

فحملته ووضعته في مهده، وقدمت به على الملأ من بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:٢٧]، فتعجبوا!! {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:٢٧]، أي: أمر عظيم هائل لا تصدقه العقول، ثم أخذوا يكثرون عليها اللوم والعتاب: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:٢٨]، وهارون هذا رجل صالح كان في بني إسرائيل فشبهوها به؛ لأنها كانت تشبهه في عبادتها لله جل وعلا، وليس المقصود به: هارون أخو موسى بن عمران عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأنت من عائلة معروفة بالتقى، {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٨]، فمن أين أتيت بهذا الشيء الذي ليس من طبع قومك، ولا من أخلاق والديك، وليس منك بشيء؟! فلم تملك جواباً؛ لأنها أمرت بالصمت، فما زادت على أن أشارت إليه، فلما أشارت إليه ظنوا أن هذا زيادة في التهكم.

{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:٢٩]، هنا أظهر الله جل وعلا أولى معجزات المسيح ابن مريم فأنطقه الله في مهده والله على كل شيء قدير: {