ما يُستنبط من قصة داود عليه السلام
وبعد هذه الوقفات مع هذا النبي الكريم الذي عزَّى الله بقصته نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن نستنبط أموراً عدة: أن الله جل وعلا يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥]، فالله يبتلي بالنعم كما يبتلي بالنقم، وقد آتى الله داود قوة صرفها في الطاعة والعبادة، وآتى الله داود صوتاً رخيماً جميلاً صرفه في تلاوة كتاب الله جل وعلا، وآتى الله داود فصل الخطاب فصرفه في الحكم بين الناس بالحق، وآتى الله تبارك وتعالى غير ذلك من النعم داود فوظفها كلها في رفعة دين الله جل وعلا، ولهذا ينبغي أن يقال: إن من أفاء الله عليه نعماً معدودة كانت أو واحدة أو قليلة فينبغي أن تصرف في دين الله جل وعلا، فالملوك والأمراء وذووا السلطان ومن أفاء الله عليهم بمثل هذا ينبغي عليهم وجوباً أن يصرف ملكهم وغمرتهم وسلطانهم ومسئولياتهم في رفعة شأن دين الله جل وعلا، فهذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن يسعى كل مؤمن من أجله، فالمؤمن التاجر الذي أفاء الله جل وعلا عليه بالأموال والنعم الكثيرة ينبغي أن يصرف هذه النعمة في رضوان الله جل وعلا، فيتفقد فقراء المسلمين، ويسهم في العمل الدعوي: في توزيع الأشرطة والمذكرات والنشرات النافعة المفيدة التي يكون فيها الخير أكثر من الشر، ويسهم في الأعمال الإغاثية المتجاوزة لحدود هذا البلد للمسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم في كل مكان.
والشاب القوي الذي آتاه الله جل وعلا فراغاً وصحة ينبغي أن يسهم في رفعة دين الله جل وعلا، وأن يوظف قوته في ذلك، فاجعل لنفسك ولو وقتاً يسيراً تهبه لله تبارك وتعالى من أجل أن تحمل شيئاً من هم دين الله العظيم، ومن أجل أن تسهم في رفعة دين الله تبارك وتعالى، فلا تنم الليل إلا وقد أرقك أحوال المؤمنين في كل مكان: أرخص الدماء دماءهم، أضعف الناس هم، وما ذلك إلا لأنني أنا وأنت كل منا تنصَّل من مسئوليته وكل منا يقذف بالمسئولية على الآخر حتى خلت الساحة ممن يحملون هم الإسلام وممن يحملون مسئولية رفعة دين الله جل وعلا، وغدا المسلمون أمماً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
كما إنه ينبغي أن يُعلم أننا في حاجة لكل مؤمن ولو كان يحمل من الخير مثقال ذرة، أما قضية تصنيف الناس حتى قول: ملتزم وغير ملتزم والله الذي لا إله إلا هو! إن في النفس منها أشياء كثيرة.
فـ أبو محجن الثقفي إن صح أنه صحابي رضي الله تعالى عنه - وهذا من باب الدعاء إن لم يكن من الصحابة - هذا الرجل كان في جيش سعد في معركة القادسية، وكان مقيداً بالسلاسل بحجة أنه شارب للخمر، وقد نقل عنه أنه قال يوصي بنيه: أن يسقوا على قبره الخمر إذا مات، فإني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها.
ففكت قيده امرأة سعد وكانت زوجة للمثنى بن حارثة؛ لأنها علمت أن المسألة الآن ليست مسألة خمر ولا ميسر، فذهب وحارب في صفوف المسلمين وفعل بالفرس ما فعل حتى ظنوه رجلاً من الجن يحارب مع المؤمنين.
فالمقصود: أن كل من في قلبه: لا إله إلا الله فنحن اليوم محتاجين إليه؛ بسبب الضعف الذي أصاب الأمة والوهن والعجز، وما ذلك إلا لأن كل شخص يعتقد أنه سيبدأ من الأَلِف من جديد، والمفروض أن نبدأ بالموجود بالمحسوس ونرقع ونلمم ما يمكن ترقيعه وتلميمه، ثم إذا قويت شوكة الإسلام وعلت عزته فإن كان أمر أو بدا رأي، فلا بأس أن يعمل به في تلك اللحظات، أما أن نحرم أنفسنا من إخواننا المؤمنين بحجة مظهر أو بحجة مخبر فهذا أمر غير مقبول، وصحيح أن المجاهرين بالفسق والأقل صلاحاً لا يصدَّرون، ولا يعطون القيادة، ولا يطلب منهم إرشاد الناس، لكن من الممكن الاستفادة منهم ولو بشيء يسير في رفعة دين الله جل وعلا، وأنا أذكر -والله يعلم- عندما أعدنا بناء هذا المسجد جاءني شخص، لو صنفنا الناس على ما يقولون: ملتزم وغير ملتزم فإنه ليس فيه مظهر من مظاهر الالتزام الظاهر ولا مثقال ذرة، ومع ذلك ترك عندي مائتي ألف ريال، وقال: اجعلها في بيت من بيوت الله، ثم خرج وأنا إلى الساعة لا أحفظ إلا اسمه الأول ولا أدري حتى ما اسمه الآخر.
لكنني لا أريد من الشخص أن يعمل حتى يبلغ مرحلة لا يعمل فيها لدين الله، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع أهل الفسق وأهل الزيغ يكون البناء والأخذ من الناس أحسن ما فيهم، فحجر من هذا ولبنة من هذا وشيئاً فشيئاً حتى يكتمل بناء الأمة.
أسأل الله جل وعلا أن يبلغ الأمة منازلها العظيمة التي كانت عليها.
وعلى العكس تماماً مما قلناه فإن بعض الناس قد يستثمر نعم الله عليه في أمور تجلب سخط الله جل وعلا، فكثير من المغنين الذين فاقت شهرتهم وذاعت لا ريب ولا جدال أن أصواتهم جميلة وأصواتهم رخيمة وإلا فإنهم ما دخلوا عالم الغناء، لكن هذه النعمة لم يحسنوا توظيفها وإنما وظفوها في محاربة الله جل وعلا، ولا ريب أن من الأمور التي لا تقبل أن يحارب العبد ربه بنعمة أنعمها الله جل وعلا عليه والممثلات اللاتي فتنَّ المؤمنين في المشرق والمغرب فقد منحهن الله قدراً من الجمال - هذا من باب الإخبار بما نسمع لا من باب الإخبار بما نرى - منحهن الله جل وعلا قدراً من الجمال لكنهن لتغلب الشيطان عليهن استثمرن هذا في معصية الله جل وعلا، وقد ورد: أن أبا حازم -وهو أحد أئمة السلف- حج ذات يوم إلى البيت العتيق، فلما كان في رمي الجمرات وجد امرأة في قمة الجمال قد كشفت عن وجهها ووقفت وترك أكثر الشباب الرمي وأخذوا ينظرون إليها، فجاء إليها وقال: يا أمة الله! اتقي الله واستتري فقد فتنت الناس عن نسكهم، فأخبرته تلك المرأة وهي من جنس هؤلاء الممثلات أنها لم تأت للحج ولكنها أتت لفتنة الناس بجمالها: قالت من اللائي لم يأتين يبغين حجة ولكن ليقتلن البريء المغفلا وصحت الرواية أولم تصح فإن كثير من الناس يمن الله جل وعلا عليه حتى بخفة الدم والظرافة في المجلس فالعياذ بالله فلا يجد شيئاً يضحك به الناس حتى يقولوا عنه: إنه خفيف الدم ورجل ظريف إلا السخرية بدين الله جل وعلا، أو السخرية ممن يحملون شعائر الله، أو السخرية بتقليد العلماء أو الدعاة، أو السخرية بمظاهر ولبس المستقيمين على شرع الله جل وعلا، فكونك ظريف وخفيف دم فهذا نعمة من الله جل وعلا، أنك لم تكن رجلاً ثقيلاً غير مرغوب فيك ولا محبوب، ولكن من السفه العظيم أن تسخِّر تلك الموهبة على قلتها في محاربة الله تبارك وتعالى والاستخفاف بدينه، وحصر هذا الأمر طويل جداً لكنني أضع إشارات وملامح على الطريق وكلكم أبصر منا وأعلم تقيسون عليها ما ينفعنا والمؤمنين في أمر ديننا ودنيانا هذه الوقفة مع نبي الله تبارك وتعالى داود.