للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب عقوق الوالدين]

ولو استقصينا أسباب العقوق لوجدناها تنحصر في أغلب ما يأتي: أولها: جهل كثير من الناس بما أعده الله من أجر عظيم لمن بر والديه, فهو لا يرى في بر الوالدين منقبة، ولا يرى في بر الوالدين مرقى إلى الملكوت الأعلى والرضا من الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:٨]، وقال تبارك وتعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:١٤]، أي: بالعبادة، {وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:١٤]، أي ببرهما، وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله الخروج إلى الجهاد (ألك والدين؟ قال: نعم، قال: الزمهما فثم الجنة)، بل إنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أوصى أحد أصحابه ممن سألوه أن يلزم خالته؛ لأن أمه متوفاة وقال له: (إن الخالة بمنزلة الأم)، فجهل كثير من الناس لما أعده الله من أجر ببر الوالدين هو الذي دفعهم إلى العقوق.

ومما دفع كثير من الناس إلى العقوق: سخريتهم وعدم اعتقادهم بما أعده الله من وعيد لمن عق والديه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)، فليست فقط الكبائر، ولكنها من أكبر الكبائر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، فثنى بعقوق الوالدين وهو أعلم الناس بالشرع بعد الفرية الكبرى والذنب الأكبر وهو الإشراك بالله.

كما أنه مما أسهم في وجود ناشئة يعقون والديهم ما يرونه ويسمعونه في بعض المسلسلات والأفلام من عدم وجود حرمة للوالدين وبر الوالدين في ثنايا المسلسل أو الفيلم، فيصور العائلة على أنها إفراد متكافئين والوالد يكلم ولده استرحاماً، والولد يكلم والده علواً وما إلى ذلك حتى غرس في القلوب واستقر في العقول أن هذه هي الحياة الطبيعية؛ لأن النشء من كثرة ما يسمع وما يرى وما إلى ذلك وجد أن الأمر طبيعياً فلا يجد غضاضة ولا ملاماً ولا عتاباً أن يرفع صوته على أحد والديه؛ أمه أو أبيه؛ لأنه يرى أن هذا أمر طبعي جبل الناس عليه بدليل أنه رآه في مسلسل، أو بدليل أنه قرأه في قصة، أو بدليل أنه رآه في فيلم ذات يوم في بيته أو في غيره من بيوت أصحابه.

كذلك مما أسهم في عقوق الوالدين: رفقاء السوء، فإن كثيراً من الشباب -عفا الله عنا وعنهم- يهون بعضهم لبعض مسألة بر الوالدين، حتى أحياناً من الشباب الموسومين بالاستقامة فقد يفضل حضور محاضرة أو درس أو الذهاب إلى نافلة من الطاعات على بره لوالديه، ولا ريب إن هذا خلاف الحق وخلاف الصحيح، فإن إجابة أمر الوالدين واجب وما عدا ذلك من حضور المحاضرات والدروس فإن غالبه داخل في عموم النوافل، وليس من الحكمة تقديم النفل على الواجب, إلا إذا أمرك والداك أو أحدهما بمعصية الله، الكف عن تلك المعصية، والثاني: استرضاءهما ومحاولة تقريبهما من الدين العظيم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين وغيرهما: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج)، ثم فصل صلى الله عليه وسلم قال: (وكان جريج رجلاً عابداً في بني إسرائيل، فدعته أمه ذات يوم قالت: يا جريج! وهو مقبل على الصلاة، قال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان من الغد دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان في اليوم الثالث دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي فأقبل على صلاته، فدعت أمه عليه: اللهم! لا تمته حتى تريه وجوه المومسات)، والمومسات: هن النساء المشتغلات بالزنا والبغي، فتذاكر بني إسرائيل عبادة جريج فقالت امرأة: أنا أفتنه لكم، وكانت المرأة على قدر كبير من الجمال فتعرضت له في الطريق، فأعرض عنها، فذهبت إلى راعٍ فمكنته من نفسها فحملت منه، ثم لما وضعت أخذت المولود وقدمت به على بني إسرائيل، وقالت: هذا الغلام من جريج , فذهب بنو إسرائيل إليه وهو صومعته فهدموها وأنزلوه وأخذوا يوجعونه ضرباً فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة فحملت منك مولوداً فقال: ائتوني بماء حتى أتوضأ, فتوضأ وصلى لله ركعتين، وكذلك حال المؤمنون فإذا حلت بهم النوازل لجئوا إلى الله، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥].

ثم إنه بعد ذلك دعا بالغلام فوخزه في خاصرته وقال له: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله ذلك الغلام في المهد وقال: أبي فلان الراعي! نصراً من الله لـ جريج.

موضع الشاهد: أن الله استجاب لدعوة تلك الأم على ابنها بأن يرى وجوه المومسات فرأى ذلك، لكن عندما كان ذلك العبد قريباً من الله، وذا عبادة عصمه ودافع عنه، وأظهر براءته.

وللحديث بقية وإنما اكتفينا بموضع الشاهد منه؛ لأنه هو المقصود.

وقد جاء في بعض الروايات أو في أقوال بعض أهل العلم أن جريجاً رحمة الله تعالى عليه لم يكن فقيهاً، ولو كان فقيهاً لما قدَّم النافلة على طاعة الوالدين.

ومن أسباب العقوق كذلك: أن كثيراً من الشباب أو من الرجال يكون لديه ضعف في شخصيته، أو كما يطلق بعض الناس على هذه الحالة: أن لديه مركب نقص، فيريد إن يظهر قوته وسلطانه أمام أقرانه وزملائه ورفقائه وأصحابه بأن يعصي والديه أمامهم، أو أن يتجرأ على الوالدين أمامهم، أو أن يبين لهم أنه ليس لوالديه سلطان عليه، فهو يغدو ويروح، ويذهب ويجيء، ويرفع الصوت ولا يبالي، ويأخذ من الأموال ما شاء فيتعجب الرفقاء والقرناء والأصحاب من قوة شخصيته، وهؤلاء يقول الله في مثلهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢]، وصدق الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، فالحق يعرف بنوره ولا يعرف بكثرة أو قلة أتباعه، فإن للحق نوراً لا يخفى على أحد.

هذه بعض أسباب الحقوق، وقد يفتح الله على غيري فيذكر أكثر منها وغالب الظن عندي أنها من أعظم أسباب عقوق الوالدين، وهي منافية لما أمر الله به ولما وصف الله به الصالحين فيحيى عليه السلام يقول الله فيه: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم:١٤].

ثم ذكر الله جل وعلا الصفة الثالثة ليحيى عليه الصلاة والسلام فقال جل ذكره: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:١٤]، فالكبر رذيلة من الرذائل في حق بني آدم، وهو صفة عظيمة من صفات الله جل وعلا، فالكبرياء رداء الله، والعظمة إزاره، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قطعته أو بهته)، وأمر الله يكون الإنسان مجبولاً على التواضع وغض الطرف وأمر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله على من قال: تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولاتكن كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن الناس غالباً لا يحترموك إلا لسلطان أو لمال أو لغنى أو لما شابهه، هذا إذا كنت عندهم، فإذا انصرفت عنهم لعنوك، ولكن تكسب قلوب الناس إلا بالخلق الحسن والتواضع والبعد عن الكبر؛ لأنك لا تستطيع ولن تقدر أن تنازع الله بسلطانه، يقول الله جل وعلا مؤدباً لخير المؤدبين صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]، ولقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الكبر، وأقرب الناس -صلى الله عليه وسلم- إلى التواضع، ولذلك تآلفت قلوب المؤمنين الخلّص حوله، قال الله جل وعلا: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].

يقول جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه -والحديث في صحيح مسلم (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى يعني: صلاة الظهر، قال: ثم انصرف فتبعه غلمان أهل المدينة يسلمون عليه، قال جابر: فسلم عليهم واحداً واحداً حتى وصل إليَّ -يقصد: نفسه- فسلمت عليه فوجدت بيديه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار)، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

ومن أمثلة تواضعه صلى الله عليه وسلم, أنه لما زار بعض بيوت أصحابه أخذ يداعب غلاماً صغير يقول: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، والنغير: طائر من الطيور كان أبا عمير -وهو طفل صغير- قد وضعه في قفص فمات الطائر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه ويسليه والحديث في البخاري وغيره، فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.

ونحن كمؤمنين لسنا مكلفين بإتباع زيد ولا عمرو ممن يخطئ ويصيب، ولكنا ملزمون شرعاً بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعيرك أحد أن التواضع من ضعف الشخصية بل إن التواضع دليل على الصحة النفسية ودليل على ثقة المرء بنفسه إلا عند أهل الكفر، قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩]، فهذه ثلاث صفات وصف الله جل وعلا بها نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام.

ثم قال الله تبارك وتعالى في حق يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:١٥]، وعندما يمعن الإنسان النظر في يوم الميلاد ويوم الموت ويوم البعث يجد أن هذه الثلاثة المواضع لا يمكن أن تتكرر أبداً، فالإنسان أياً كان لا يولد مرتين، ولا يموت مرتين، ولا يبعث مرتين، فكلنا يولد مرة واحده، ويموت مرة واحدة، ويبعث مرة واحدة، فإذا سلم الإنسان في هذه المواطن الثلاثة فقد سلمه الله جل وعلا، والله كتب السلامة ليحيى ولعيسى بن مر