للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التأمل في شواهد وحدانيته وربوبيته]

أيها المؤمنون! إن من أعظم ما يعين العبد على معرفة قدر ربه تبارك وتعالى: أن يتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته، مستصحباً الفطرة السليمة التي أودعها الله جل وعلا في قلب كل أحد في أن يعرف ربه، فقد قال الهدهد لما رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:٢٥ - ٢٦].

فبموجب فطرته التي خلقه الله تعالى عليها أنكر هذا الطائر على بلقيس وقومها أن يسجدوا لغير الرب تبارك وتعالى، فإذا استصحب الإنسان تلك الفطرة السليمة مع ما أفاء الله جل وعلا عليه من العلم مما أنزله الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته تبارك وتعالى قاده ذلك إلى العلم بالله، فالله الذي خلقنا من العدم وربانا بالنعم وهدانا للإسلام.

وقد ذكر الله جل وعلا كثيراً من أخبار خلقه في طيات كتابه، أخبر جل وعلا أنه حملهم بفضله في البر والبحر، ورزقهم جل وعلا من الطيبات وما كان لهم أن يصلوا إلى ذلك لولا فضله.

ثم أخبر جل وعلا أنه بأكبادهم الغليظة وأنفسهم السقيمة وعقولهم التي لا تعي، تجدهم -عياذاً بالله- إذا ركبوا في البحر فمسهم الضر لجئوا إلى الله وحده، فلما أمنوا جعلوا لله جل وعلا أنداداً غيره يعبدونها، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:٦٧ - ٦٩].

وأخبر جل وعلا أنه يزجي السحاب، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً.

وأخبر جل وعلا أنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.

ومن أعظم دلائل وحدانيته وشواهد ربوبيته: أنه جل وعلا وحده من يخلق، وغيره -شاء أم أبى- مخلوق، وقد قلنا مراراً: إن القرآن يقوم على مبدأ عظيم وهو: أن كل من يستطيع أن يثبت أن هناك خالقاً غير الله فليعبده لكن لا أحد يخلق إلا الله فوجب ألا يعظم أحد التعظيم الكامل وألا يعبد أحد من دون الله أبداً.

على هذا أسست دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: لا خالق إلا الله، فبالتالي لا معبود إلا الرب تبارك وتعالى؛ لأنه لا أحد غيره يخلق.

وقد غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش فجاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظام قد أرمت، ثم نفث فيها في يوم رائح، ثم قال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد ما أرمت؟ أي بعدما أصبحت عظماً بالياً، فقال صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن ربه، قال: (نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار)، فأنزل العلي الأعلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:٧٧ - ٨٠] إلى أواخر سورة يس التي فيها جل البراهين على أن الله جل وعلا وحده الذي يخلق، وبالتالي لا يعبد ولا يعظم التعظيم الكامل إلا هو سبحانه وتعالى.

غاية الأمر أن يعلم أن التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته يدل على عظمته جل وعلا، وبالتالي يستقر في القلوب وفي العقول أن الله جل وعلا عظيم القدر جليل الشأن، تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد، ولم يلد ولم يولد.