[يوم القيامة ميقات الناس أجمعين]
قال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:٤٠ - ٤٢]، هذه الآيات جاءت بعد قول الله جل وعلا في نفس سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:٣٨ - ٣٩]، ثم قال الله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان:٤٠] ولم يأت بواو العطف، قال بعض المعنيين بالبلاغة واللغة: إن هذا معناه أن هذه الآيات كالنتيجة لما قبلها.
ثم تأمل أيها المبارك قول الله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فهذا أحد أسماء يوم القيامة، وسمي بهذا لأن الله جل وعلا يحكم فيه بين خلقه ويفصل بين عباده.
(مِيقَاتُهُمْ) والميقات اثنان: ميقات زماني لا يعلمه إلا الله، وميقات مكاني على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين.
والأصل أنه ميقات لكل مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وإنس وجني، بل هو ميقات للخلائق أجمعين، لكن الله جل وعلا أضاف الميقات إلى أهل الكفر لأنهم المخاطبون الأولون بالوعيد، فقال جل وعلا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:٤٠]، وكلمة (أجمعين) هنا وردت للتوكيد، وهي توكيد معنوي، وليس خافٍ عليك أن التوكيد ينقسم إلى قسمين: توكيد معنوي وتوكيد لفظي، ولفظ (أجمعين) في هذه الآية من ألفاظ التوكيد المعنوي، وهو يؤتى به للتأكيد، لكن قد يتكرر بعض ألفاظ التوكيد المعنوي فلا ينتقل إلى كونه توكيداً لفظياً، بل يبقى على حاله توكيداً معنوياً، لكن له أغراضاً بلاغية.
قال الله جل وعلا مثلاً في سورة (ص): {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:٧٣] فواحدة منها تكفي: فسجد الملائكة كلهم، أو يقول الله: فسجد الملائكة أجمعون، لكن تكرار، والتوكيد هنا أراد الله به أنه لم يبق منهم أحد لم يسجد، وأراد الله بقوله: (أَجْمَعُونَ) أي: أنهم في وقت واحد، فيصبر تكرار التوكيد هنا أفاد فائدة زائدة، وهي أن الملائكة سجدوا جميعاً من غير استثناء، وسجدوا جميعاً في وقت واحد.
قال الله جل وعلا هنا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:٤٠]، ثم قال جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي} [الدخان:٤١] أي: لا ينفع ولا يفيد، {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:٤١] وكلمة (مولى) كلمة فضفاضة في اللغة، لكن معناها هنا: الحليف القريب الناصر المحب، أي: من يحب أن يؤازرك، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:٤١]، وكلمة شيئاً في القرآن إذا نكرت تدل على القلة، قال الله جل وعلا: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦].
{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:٤١] من غنى، ثم قال الله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:٤١]، والنصرة أعظم الغنى.
ثم قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:٤٢] و (إلا) هنا هل هي استثناء متصل أو استثناء منقطع؟ وفق قواعد اللغة والنحو تحتمل الآية الأمرين، فإن قلنا: إن الاستثناء متصل يصبح المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً إلا من رحم الله، بمعنى: إلا من رحم الله من الموالي، فأولئك ينفع أحدهم أخاه، وتكون صورة ذلك بأن يأذن الله للشافع ويرضى عن المشفوع له، فيكون هذا استثناء من الآية، هذا على القول أن الاستثناء متصل.
وإذا قلنا: إن الاستثناء منقطع فيصبح معنى الآية: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، فتصبح (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً لكن من رحم الله لا يحتاج إلى نصرة؛ لأن الله جل وعلا رحمه وآواه.
وإذا تدبر المؤمن هذه الآيات أغفل ما قاله النحاة وتكلم عنهم البلاغيون؛ لأن هذا ليس مقصوداً في الأصل، إنما المقصود في الأصل أن يتدبر الإنسان القرآن فينظر ما هي أسباب رحمة الله، فالناس والعوام منهم على وجه الخصوص ليسوا في حاجة إلى أن يبين لهم الاستثناء المنقطع من الاستثناء المتصل، لكنا جميعاً بحاجة إلى أن يفقه الإنسان ما أسباب رحمة الله، لعل الله جل وعلا أن يرحمه، يقول الله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:٤٢].