للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تدبر في قصة مؤمن آل فرعون وحياة يوسف عليه السلام]

وفي هذه السورة ذكر الله جل وعلا قول مؤمن آل فرعون، ومن ذلك: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:٣٤].

فالحديث هنا عن مؤمن آل فرعون، وهو رجل من آل فرعون كما نص الله، وذهب بعض العلماء إلى أنه من بني إسرائيل، وهذا بعيد؛ لأنه مخالف لظاهر الآية.

ولئن كانت الوقفتان السابقتان وقفتين إيمانيتين، فإن هذه وقفة تاريخية، فالله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ويحكم ويفعل في عباده ما يريد.

فيوسف عليه الصلاة والسلام نشأ أخاً لأحد عشر أخاً غيره من أبناء يعقوب بن إسحاق بن الخليل إبراهيم.

وحظي يوسف عليه الصلاة والسلام بالقرب من أبيه، فتآمر عليه إخوته، وأقنعوا أباهم بأن يذهبوا به ليلعب معهم ويرتع، ثم ألقي يوسف في غيابة الجب، فأوحى الله جل وعلا إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:١٥].

وعاد الأبناء إلى أبيهم يقولون: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:١٧]، فأخذ الأب المكلوم ينظر في القميص فلم ير فيه تغيراً، فيقول: أي ذئب عاقل هذا أكل ابني وترك قميصه؟! لكن الله جل وعلا ألهم يعقوب الصبر فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨].

ثم أخرج يوسف وبيع بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فآواه عزيز مصر، وأدخله داره، وقال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:٢١].

وأراد الله بهذا التمكين ليوسف خلاف الذي أرداه له إخوته، فقد أراد له إخوته أن يعيش مشرداً ضائعاً في غيابة الجب، فأراد الله جل وعلا أن يحيا يوسف في القصور، ففتنت به امرأة العزيز، ولكن يوسف عليه السلام كان خائفاً من ربه، وفياً مع سيده زوج المرأة، قال الله جل وعلا: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:٢٥] أي: الزوج، فبادرت تقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:٢٥] فدافع عن نفسه، فأُغلقت القضية بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:٢٩].

فوضع يوسف في السجن، وتغيرت الأحداث، وتغير الأشخاص الذين ظهروا على مطلع الحياة آنذاك، ولكن الذي لم يتغير هو اعتقاد يوسف بربه جل وعلا، فصلاح يوسف لم يتغير، وإنما ازداد إيمانه، فيوسف التقي عند أبيه هو التقي في غيابة الجب، ويوسف التقي في غيابة الجب هو التقي في القصر، ويوسف التقي في القصر هو التقي في السجن.

قال الله جل وعلا عن فتيين مبيناً تأثير هذا النبي الكريم على من حوله بخلقه وكريم صفاته: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٣٦] فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله، ولا يعرف الأنبياء شيئاً أعظم من توحيد الله، فأخذ يقرر عليهم التوحيد ويمليه عليهم، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٣٩ - ٤٠].

ويقدر الله أن يرى الملك الرؤيا، وتمر أحداث ليس هذا مقام تفصيلها، ويصير يوسف عزيز مصر يمكن في الأرض ويجعل على خزائن الأرض.

وفي أرض كنعان أرض فلسطين يشعر يعقوب وأبناؤه بحاجة إلى القوت، ويسمعون عن ملك بأرض مصر، فيبعثون له العطايا، ويخرج الإخوة فيلتقون بيوسف، فيعرفهم ولا يعرفونه، ويعرض عليهم أن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، فتارة يرغبهم فيقول: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:٥٩] وتارة يرهبهم: {فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:٦٠].

ثم ينتج عن ذلك أن يأخذ أخاه، ويبقى الأخ الأكبر، ويرجع بقية الإخوة إلى أبيهم يخبرونه الخبر: بالأمس فجعناك بيوسف واليوم نفجعك بأخيه بنيامين، فيقول ذلك النبي الصالح والعبد المكلوم يقول كما علمه الله: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] والأخذ والتوكل على الملك الغلاب لا ينافي الأخذ بالأسباب، فقال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:٨٧]، وفي آخر الأمر يدخل يعقوب أرض مصر ومعه أبناؤه، فيخرون سجداً ليوسف سجود تحية لا سجود عبادة.

فهذا الذي أراده مؤمن آل فرعون عندما قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:٣٤]، فدل هذا على أن يوسف كان رسولاً نبياً بنص القرآن إلى فرعون الذي كان يحكم آنذاك في أيام حياة يوسف عليه الصلاة والسلام في أرض مصر.

وقد دخل يعقوب عليه السلام بأهله أرض مصر وما كان يتجاوز عددهم أربعة عشر رجلاً وامرأة، فبارك الله في هذه الذرية، فلما خرج موسى ببني إسرائيل من أرض مصر كان عددهم يزيد على ستمائة ألف، وكلهم مما وضعه الله جل وعلا من البركة لنبي الله جل وعلا يعقوب.

فهذا المؤمن يخوف آل فرعون بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:٣٤].

أثنى الله جل وعلا على هذا المؤمن بأنه ذكر الله جل وعلا في مجلس كله كفر، والعبد يعظم عند الله إذا كان يسعى إلى أن يحبب الله جل وعلا عند خلقه، ولم يأت الأنبياء برسالة أعظم من أن يعرفوا العباد بربهم تبارك وتعالى.

فاحرص -يا أخي- على أن يكون أعظم همك أن تبين للناس ما لربهم جل وعلا من صفات الجلال ونعوت الكمال، وأنه وحده المستحق للعبادة الكبير المتعال.

وهذا الأمر يتفاوت بحسب قدرة الخطيب على منبره، والإمام في محرابه، والمعلم في مدرسته، والمرأة في بيتها، والإداري في وظيفته، وكل بحسبه، ولكن علينا أن يكون همنا أن يعرف الله جل وعلا، وأن يعظم وأن يعبد تبارك وتعالى وحده، والطرائق في هذا تختلف؛ لأن الناس يختلفون من بيئة إلى بيئة ومن جيل إلى جيل، ومن مقام إلى مقام، والمقصود الأسمى من هذا كله أن يكون همنا الأعظم الدعوة إلى الرب تبارك وتعالى كما حكى الله عن هذا المؤمن الصالح.