للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دخول يوسف السجن]

مضت أمور وشواهد عديدة استقر بها يوسف في السجن, فدخل السجن صلوات الله وسلامه عليه، وتغير المكان من القصر إلى السجن، لكن قلب يوسف لم يتغير، بقي تقياً مؤمناً خائفاً وجلاً من ربه، فظهر عليه سمت المتقين، ودأب الصالحين, وأقوال عباد الله المخلصين, حتى لاحظ ذلك من كان مسجوناً معه, فقدر لهما بقدر الله أن يريا رؤيا، فلما نظرا فيمن حولهما تبين لهما ما على يوسف من سمت الهداية فأقبلا عليه يقصان الرؤيا: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٣٦].

انتهز حاجتهما إليه، وأخذ يدعوهما إلى الله, وأي شيء أعظم وأجل من أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى.

يقول عليه الصلاة والسلام كما في الترمذي وغيره: (إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والحوت في بحره والنملة في حجرها ليصلون على معلم الناس الخير).

وفي محكم التنزيل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣].

فأول شيء دعاهما إليه: توحيد الله الواحد القهار بإسلوب قرآني تهتز منه الجبال وتخر له الصخور الصماء, قال الله جل وعلا حكاية عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٣٩ - ٤٠].

فلما أدى ما عليه من واجب الدعوة، برهما لأنهما كانا جاران له في السجن, فنبأهما بتأويل الرؤيا، قال: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:٤١].

غلب على ظنه أن أحدهما ناج فقال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:٤٢] أي: اذكرني عند الملك, {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢].

كتب الله له أن يبقى ما شاء الله أن يبقى في السجن، فلما مكث في السجن صلوات الله وسلامه عليه، قدر لذلك الذي خرج أن يصبح ساقياً للملك، ويقدر الله أن يرى الملك رؤيا يعرضها على من حوله, لم يكونوا من الفقه والعلم في شيء: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:٤٤].

فتذكر الساقي يوسف وقدرته على التأويل والتعبير قال: {فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:٤٥] أي: ابعثوني إلى يوسف, فبعثوه، وهذا يسمى في القرآن: إيجاز حذف.

فلما بعثوه قدم الرسول إلى يوسف وأخبره بالرؤيا فعبرها صلوات الله وسلامه عليه كما حكى الله جل وعلا في كتابه, وقال في ختامها: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:٤٩].

فلما عاد الرسول إلى الملك وأخبره وهو رجل ذو سلطان لا يمكن أن يعبأ بمسجون, لكن تدبير الله أعظم وأحكم {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} [يوسف:٥٠]، رفض يوسف أن يخرج: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٠].

فلو خرجت الآن فإن الناس سيقولون: إن التهمة ثابتة على يوسف, لكن الملك أخرجه؛ لأنه عبر له الرؤيا, فأراد أن تثبت دلائل براءته قبل أن يثبت معرفة الناس أنه على قدرة في التعبير والرؤيا.

فلما رجع الرسول إلى الملك فطن الملك أن هذا الذي في السجن ليس رجلاً عادياً، قال الله عنه بعد ذلك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:٥٤].