الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما عرف بالله ووحده ودعا إليه وعلى آله وأصحابه وعلى سار من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}[فصلت:٤٠ - ٤٣].
أيها المؤمنون! ما أنزل كتاب من السماء على نبي من الأنبياء أعظم ولا أجل من القرآن العظيم الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فما بين دفتي المصحف مما يراه المؤمن اليوم ويقرؤه هو كلام رب العزة والجلال جل جلاله، نزل به أمين السماء جبريل على قلب أمين أهل الأرض محمد صلى الله عليه وسلم، في خير ليلة هي ليلة القدر، وفي خير شهر هو شهر رمضان، أنزله الرب تبارك وتعالى ولم يكل إلى أحد من الخلق حفظه، وإنما أوكل جل وعلا حفظه إلى ذاته العلية، فقال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:٩]، فكتاب بهذه المنزلة حري بأن يكون من يحفظه، ويتدبره، ويعلمه، ويقرؤه، ويتلوه، ويقوم به، ويعمل به، ويؤمن بمتشابهه، ويعمل بحكمه، حري أن يكون من أهل الله وخاصته.
جعل الله جل وعلا لأهل القرآن في الدنيا صدور المجالس، وجعل لهم في المساجد صدور المحاريب، وجعل لهم في حياة البرزخ أول القبر، وجعلهم يوم القيامة أهل الله وخاصته جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم ولقد عرف التاريخ الإسلامي منذ أن جمع القرآن في عهد أبي بكر إلى يومنا هذا أفذاذاً من الرجال وأئمة من الأخيار أفنوا أعمارهم وقضوا أيام حياتهم في كلام ربهم تبارك وتعالى، إما يتلونه وإما يعلمونه وإما يتدبرونه وإما يفسرونه وفي ذلك كله كانوا يعملون به؛ لأنهم يعلمون أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب إلا العمل الصالح، استفتح شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسير قول الله جل وعلا:{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}[الأعراف:٥٦]، في الحرم بعد صلاة المغرب، فمكث رحمه الله رحمة واسعة يبكي لا يقدر على أن يفسرها إلى أن أذن العشاء، كيف يتصور أن يفسد أحد في الأرض بعد أن أصلحها الله! وفسر قول الله جل وعلا:{اهْبِطُوا مِصْرًا}[البقرة:٦١]، في ٤ ساعات دون أن يكرر كلامه أو يخرج عن معنى هذه الآية رحمه الله وعفى عنه، وهو آخر من أدركنا من الأئمة الكبار الذين يؤخذ عنهم العلم في كلام الرب تبارك وتعالى أخذاً كلياً.
غاية المقصود من هذا كله أننا في هذا اللقاء المبارك سنتأمل آيات متفرقات من كلام الرب جل وعلا، أحياناً نتأملها تأملاً علمياً محضاً وأحياناً نتأملها تأملاً وعظياً محضاً، وأحياناً نحاول أن نجمع بين العلم والوعظ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.