معشر الأحبة! كما أن من مواقف الصديق رضي الله تعالى عنه: التضحية بالنفس والمال، والإنسان لا يملك أغلى من هذين: نفسه وماله؛ ولذلك قرن الله جل وعلا بينهما في القرآن كثيراً، ولقد ضرب أبو بكر للأمة المثل الأعلى في التضحية بالنفس، والتضحية بالمال، فأما تضحيته بنفسه فظاهرة واضحة في شهوده المعارك، ومن قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بأن يدخل الغار ليختبئ من طلب المشركين، فدخل أبو بكر قبله، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما أورد أصحاب السير قال: يا رسول الله! أخاف عليك من الهوام المؤذية، فدخل رضي الله تعالى عنه الغار وأخذ يتجول في نواحيه؛ حتى لو قدر أن يكون في الغار شيء مما يؤذي فإنه يصيبه قبل أن يصيب رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ثم لما خرجا من الغار-الرسول والصديق - ومضيا في طريقهما إلى المدينة كان رضي الله تعالى عنه يمشي حيناً أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وحيناً يمشي خلفه، وحيناً يمشي عن يمينه، وحيناً يمشي عن شماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما هذا يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأذكر الطلب فأمشي خلف، وأذكر الكمين فأمشي عن يمينك وشمالك)، فهذا فداء لرسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه، ووالله لو قدر لهذا الرجل العظيم أن يقسم نفسه أجزاء ليفدي النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية لما تردد في ذلك طرفة عين، ولكنها نفس واحدة وبدن واحدة كما لا يخفى على كل أحد.
وكما ضحى بنفسه ضحى رضي الله تعالى عنه وأرضاه بماله، فقد ثبت عنه أنه أعتق الكثير من الأرقاء والعبيد -كما بينا في الأول- نصرة للدين، فجاءه أبوه وقال: يا بني! إن كنت ولا بد فاعلاً بأنك تعتق الأرقاء فهلا أعتقت أقواماً ورجالاً جلداً يمنعونك ويحمونك بدلاً من هؤلاء الضعفاء والمساكين الذين تعتقهم؟! قال: يا أبتِ! إنما أريد بعتقي إياهم وجه الله تبارك وتعالى، فما فكر رضي الله تعالى عنه في نفسه؛ لأنه يعلم أن الله وحده يمنعه ويحميه من أذى كل أحد، ولكن كان همه أن يبذل ذلك المال الذي أفاءه الله عليه في نصرة دين الله تبارك وتعالى، والتضحية بالمال من أجل دين الله جل وعلا.