[دعوة كل أناس بإمامهم يوم القيامة]
ثم نقف عند قوله سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:٧١].
اتفق المفسرون على أن هذه الآية المقصود بها يوم القيامة، ولكنهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا: (بإمامهم) على أقوال ثلاثة مشهورة، وقول غير مشهور.
أما الثلاثة المشهورة فإن من العلماء من قال: إن معنى قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) أي: بكتابهم، ثم اختلفوا في المقصود بالكتاب، فمنهم من قال: الكتاب الذي أنزل على نبي تلك الأمة، فيقال للمسلمين: يا أهل القرآن، ويقال لليهود: يا أهل التوراة، ويقال للنصارى: يا أهل الإنجيل.
وقال آخرون: المقصود الكتاب، ولكن لكل إنسان كتاب بنفسه، وحجة هؤلاء قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢] فسمى الله جل وعلا الكتاب إماماً، وحجة الأولين قول الله جل وعلا: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:١٧]، فوصف الله جل وعلا كتاب موسى -وهو التوراة- بأنه إمام.
القول الثاني: أن المقصود بـ (إمام) هنا العمل، فقالوا: إن المعنى: ينادى كل إنسان بعمله، فيقال: أين الصابرون على المقدور؟ أين الممتنعون من المحذور؟ أين أهل الصلوات؟ أين أهل كذا؟ وقالت طائفة: المقصود بكلمة (إمام) القدوة، فيقال: أين أتباع موسى؟ أين أتباع عيسى؟ أين أتباع نوح؟ أين أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وذهب محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ورحمه إلى قول غير ذلك، وهو أحد سادات التابعين، وأصله يهودي، فقد كان أبوه كعب ممن لم ينبت يوم بني قريظة فسلم من القتل، ثم أسلم وتزوج وأنجب محمداً هذا، وهو من أئمة التفسير رحمه الله تعالى.
ومما يروى عنه من جميل خصاله: أنه رزق مالاً وفيراً، فقيل له ادخر هذا المال لولدك، فقال: بل ادخر هذا المال لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي.
فـ محمد بن كعب رضي الله عنه قال في تفسير هذه الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١]: المقصود: يوم ندعو كل أناس بأمهاتهم، فلا يقال: فلان ابن فلان، وإنما يقال فلان ابن فلانة.
وقال: إن الحكمة من وراء ذلك إظهار شرف عيسى ابن مريم أولاً، والأمر الثاني: الستر على أولاد الإثم.
قال القرطبي رحمه الله: في هذا القول نظر، وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: هذا قول باطل، واحتج عليه بحديث ابن عمر مرفوعاً أنه (يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان).
ونرى -والله اعلم- أن القول مقبول، ولا يقال في حقه: باطل، بل هو مقبول إلى حد ما، والأقوال الأخرى أرجح، والمفسرون مجمعون على أن المقصود من الآيات، ذكر أهوال يوم القيامة، وأن أخذ الصحائف بالأيمان أو بالشمال من أهوال وكرب يوم القيامة التي منها الميزان والصراط والدنو من الحوض أو البعد عنه والاستظلال بظل العرش أو النأي عنه، وكل ذلك من أهوال يوم القيامة أجارنا الله وإياكم منها.