للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع الزهراوين]

وسنقف هنا مع سورتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما فرقان من طير صواف أو غمامتان أو غايتان يحاجان عن أصحابها)، وقد اختلف العلماء في سبب تسمية هاتين السورتين بالزهراوين على ثلاثة أقوال: فقال بعض العلماء: إنما سميتا بالزهراوين لما يزهر للمؤمن عند تلاوتهما من معانيهما ونور قراءتهما.

وقال آخرون: لأنه يرزق الإنسان بهما النور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون في الدنيا تقدمهم البقرة وآل عمران).

وقال آخرون: إنما سميتا بالزهراوين لأنهما اشتملتا على اسم الله الأعظم، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما اخرج أبو داود وابن ماجة من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن بسند حسن-: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٦٣] والتي في آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:١ - ٢]).

ونقول وفق قواعد التفسير: يصح أن يقال: إنما سميتا بالزهراوين لهذه الثلاثة الأقوال كلها؛ لأنه لا تعارض بينها، وقد تضمنت سورة البقرة أعظم آية في كتاب الله، وهي آية الكرسي، وختمت سورة البقرة بآيتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم: (من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وختمت سورة آل عمران بقول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠].

وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما أنه نام عند خالته ميمونة أخت أم الفضل، وأم الفضل أم ابن عباس، فـ ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم خالة ابن عباس، فنام عندها وهو صبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل، فأول ما بدأ به عليه الصلاة والسلام أنه مسح النوم عن عينيه، ثم تلا العشر الأواخر من آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١] حتى ختمها صلوات الله وسلامه عليه، ثم قام إلى شنٍ معلق فتوضأ ثم فصلى وابن عباس يرقبه رضي الله عنهما وأرضاه.

فهذا -أيها المؤمن- بعض ليل نبيك صلى الله عليه وسلم، فلينظر أحدنا كيف يقضي ليله، سترنا الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة، ووفقنا الله وإياكم لاتباع سنة نبيه.

نقول: العشر الأواخر من سورة آل عمران كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يفرك النوم عن عينيه ثم يتلوها ثم يصلي، وفي سورة البقرة ذكر الله جل وعلا آية الكرسي، وفي سورة آل عمران ذكر الله جل وعلا آية عظيمه جليلة قال فيها: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٢٦ - ٢٧]، وهذا كمثل ذكرناه، وإلا فالقرآن كله تجب قراءته، وفيه من الفضل ما لا يخفى على أحد.

ولقد قال محمد بن إبراهيم التيمي رحمه الله: من لم يبكه القرآن وقد أوتي علماً فخليقٌ أن لا يكون قد أوتي علماً، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:١٠٨ - ١٠٩].

فهي من أعظم الآيات التي ترقق القلوب، وتدل على الرب تبارك وتعالى، وإن من تعظيم القرآن الذي قال الله تعالى فيه: {فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:١٠٦] أن يؤمن الإنسان بمحكمه ومتشابهه، ويعمل بمحكمه ويخضع لأوامره ويجتنب نواهيه، ويتذكر قول الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:١١٥].

هذه وقفات منّ الله علينا بطرحها بين أيديكم حول سورة الإسراء، وكتاب الله جل وعلا أعظم وأجل من أن يستنبطه منه فرد أو شخص كائناً من كان، وإنما فيه من الغُرر والدرر ما لم نحط به علما، وفيه ما أحطنا به علماً ولكن لا يتسع الدرس لقوله، وفيه من وراء ذلك ما اختص الله جل وعلا بعلمه.

والله المستعان وعليه البلاغ، ونسأل الله القبول، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.