[بيان كيفية الدعوة من خلال قصة إبراهيم عليه السلام]
وهذه الآيات تبين كيفية الدعوة إلى الله جل وعلا.
فالدعوة هي أعظم مهمة، وأجل رسالة، ولذلك أناطها الله بالأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣]، ولقد بعث الله أنبياءه ورسله للدعوة إليه، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].
فشخصية من تدعوه تلعب دوراً كبيراً، فهي تحدد كيف تدعوه؟ فإبراهيم عليه السلام دعا أباه، ودعا عبدة أوثان، ودعا عبدة كواكب، وكان في كل مرة يستخدم الأسلوب المناسب في الدعوة.
ففي دعوته لعبدة الأوثان والرعاع قال: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:٦٧]، وفي دعوته لأبيه اتخذ الأسلوب الأمثل في حق والده عليه قال: {يَا أَبَتِ} [مريم:٤٢] ثم يكمل شيئاً فشيئاً حتى نهره أبوه، ثم قال بعد ذلك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٧]، وقال في دعوته: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:٤٥].
فاختار كلمة عذاب؛ لأنها نكرة حتى لا يعلم مقدراه، واختار كلمة الرحمن حتى يكون أرفق بالوالد، ولم يقل يمسك عذاب من الجبار أو من القوي أو من العزيز فكلها أسماء لله ولكنه اختار أسلوباً قريباً من نفسية والده.
وعندما دعا أصحاب الكواكب تنازل معهم إلى ما يريدون، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٧]، أي: معاملة لهم بعقليتهم، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:٧٨]، فأقروا أنه يريد ملتهم {فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام:٧٨]، وهنا توقف وأقام عليهم الحجة، {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٨ - ٧٩]، فأقام عليهم الحجة، وسواء اهتدوا أم لم يهتدوا فإنه لم يكلف بهدايتهم، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:٥٤].
فلذلك انظر إلى من تدعوه قبل أن تعرف ماذا ستقول له.
وإن هناك سؤالاً يطرح نفسه كثيراً وهو: هل الوسائل والطرائق في الدعوة تتعدد أم لا تتعدد؟ والحق الذي ندين الله جل وعلا به أن ما تدعو إليه واحد لا يتغير، فإنك تدعو إلى الكتاب والسنة، أما أسلوبك في الدعوة فإننا نرى أنه متوقف على شخصية من تدعوه، فلكل إنسان مفتاح إلى شخصيته، وإلى قلبه، ولو طرقت قلبه من ذلك الطريق لقبل منك, فنبينا عليه الصلاة والسلام علم أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه كان رجلاً يحب الفخر، فقال في يوم الفتح يرغِّب أبا سفيان في الدخول في الإسلام قال: (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن دار أبا سفيان لا يمكن لها أبداً أن تتسع لأهل مكة ولكن ترغيباً منه لـ أبي سفيان في أن يدخل في دين الله.
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم وهو كافر بالكتاب كافر بالسنة قال له في رسالته: (من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، فوسمه ووصفه بأنه عظيم الروم حتى يكون أدعى في قبول دين الله جل وعلا.
وكذلك المؤمن فلا تظلم من تدعوه، بل ائته بالأسلوب الحسن بالطريق الأمثل وبخاصة عند دعوة الشباب فربما رأى منظراً أعجبه فقلَّد شخصاً بعينه فلما قلده لأول وهلة أو لأول نظرة لو لأول حدث فلو أتيته بالحكمة وذكرته بالله ووصفت له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من هدي قويم لقبل منك، دون الدخول في العنف والمواجهة المباشرة، فعندما تدعو رجلاً لا يدعو إلى ضلال ولا يدعو إلى فجور ولكن ضلالته وفجوره على نفسه ذلك يختلف اختلافاً كثيراً عندما تدعو رجلاً من أئمة الضلال ممن يؤلفون الكتب أو ممن يلمزون في الدين أو ممن يسخرون من أهل الدين أو تصدروا للصد عن سبيل الله جل وعلا.
فعلمك بمن تدعوه يلعب دوراً كبيراً فيما ستقول له من كلام, فأبوك في المنزل لا يعقل أن تناديه وأن تخاطبه أو تدعوه بالطريقة التي تدعو بها أصحابك أو تدعو بها أقرانك أو تدعو بها في المسجد، وإنما اتخذ أكمل السبل فلا يمكن إذا ابتليت بأب لا يصلي بأن تناديه من الدور الثاني مثلاً: هيا قم صلِّ! فهذا لا يقبل، ولكن إذا قربت سيارتك من الدار وفتحت باب مقعد الجلوس ثم ذهبت إليه وقلت له: يا أبي! اعتقد أنه حان وقت الصلاة، بأسلوب مؤدب ويرى السيارة مجهزة، ويرى الباب مفتوحاً فإنه سيقبل ويستحيي أن يقول لك: لا, لكن أن تناديه أمام أمك وأمام إخوانك وتظهر لأمك ولإخوانك أنك الرجل الكامل في البيت، وما سواك أنهم من أهل النار، أو أن تناديهم لأنك قد ملكت السلطان المبين وهم على ضلال وزيغ فهذا لا يعقل أبداً, وأنت بذلك صددت الباب قبل أن تفتحه, أنت أغلقت على نفسك الطرق إلى قلب والدك, وحرمت نفسك من أجر هداية والدك أو غيره فالمقصود: ينبغي أن يختار الإنسان الأسلوب الأكمل والأمثل في الدعوة مع قيد واحد ألا يكون ذلك الأسلوب أمراً محرماً, فلا تأتي لشخص يحب الخمر فتهدي إليه كأساً من الخمر وأنت تزعم أنك تدعوه إلى طاعة الله! فهذا الضلال بعينه أما سوى ذلك فإننا لا نرى والله تعالى أعلم حرجاً في أن تتعدد الوسائل في الدعوة إلى الله.
هذا ما أردنا بيانه في قصة مريم.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.