ومن الدلائل ما نحن أعظم ما نكون حاجة إليه، ألا وهو الاشتياق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم، فلئن اكتحلت أعين أصحابه برؤيته صلوات الله وسلامه عليه فإن الأمر -كما أسلفت وقدمت- قد حرمنا منه بقدر الله، ولكن الله جل وعلا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من أحب، فإن رجلاً قدم إليه عليه الصلاة والسلام فقال:(يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
والمحبون بصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم والمقتفون لأثره على علم وبينة وهدى سيكونون معه بإذن الله في جنات النعيم، ولقد كان هذا الهم قد شغل الصحابة من قبل، رغم أنهم رأوه في الدنيا رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان ثوبان مولى لنبينا صلى الله عليه وسلم، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يوماً صفرة وتغيراً فيه، فقال:(ما بك يا ثوبان؟ أبك من مرض؟! قال: لا يا رسول الله، ولكنني إذا مر علي يوم لم أرك فيه بحثت عنك في بيوتاتك وبين أصحابك وفي مجلسك، فأجدك وألقاك، فتذكرت الآخرة فعرفت أنني إن دخلت النار فلن أراك أبداً، وإن دخلت الجنة فإن منازل النبيين ليست كمنازل عامة المؤمنين، فسكت عنه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا قوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:٦٩]).
وقد من الله علينا بأن جعلنا جيراناً له في داره صلوات الله وسلامه عليه، وإنه لفأل حسن ويمن مقدم لأن نكون جيراناً له صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، وأن نرد حوضه قبل ذلك، فإن الناس يخرجون من قبورهم أشد ما يكونون إلى ظل يؤويهم، وإلى ماء يرويهم، ولا ظل يومئذٍ إلا ظل عرش الرحمن، ولا ماء يومئذٍ في ساحات العرض أعذب من ماء حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، مع أن لكل نبي حوضاً، ولكن حوضه صلى الله عليه وسلم أعذب مورد، وأكمل نقاء وصفاء، أوردنا الله وإياكم حوض نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالاشتياق إلى رؤيته عليه الصلاة والسلام أمر قلبي يتذكر به المؤمن ما فاته فيتحسر على أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحظ بالكلام معه، ولم ينصره في معركة، ولم يكن ذات يوم يتلقى العلم عنه، ولم يحف به في مجلس، ولم يزره في بيته، فإذا غلبه الشوق وغلب عليه الحنين لجأ إلى أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فتأسى بها، وملأ قلبه محبة لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يكون يوم غد قريباً من جواره صلوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم.