[ذكر قصة زكريا في السورة وولادة مريم]
الوقفة الأولى: فقد ذكر الله جل وعلا فيها -بعد الحروف المتقطعة في أول السورة- رحمته جل وعلا وشمول نعمته لعبد من عباده ونبي من أنبيائه هو: زكريا عليه الصلاة والسلام، وقبل الشروع فيما أراده الله جل وعلا وذكره في كتابه يحسن القول بأن القرآن مثاني يفسر بعضه بعضاً ويرشد بعضه إلى بعضه.
فبني إسرائيل لما ظهر فيهم الفساد كان فيهم علماء ربانيون وكان من الربانيين رجل صالح يقال له: عمران فلما حملت منه زوجته، وكانت تلك الزوجة ترجو الله جل وعلا أن يرزقها ولداً لتجعله خالصاً لله يخدم في بيت من بيوت الله جل وعلا، فلما حملت منه وتمنت من الله تلك الأمنية، وضعت خلاف ما أرادت وابتغت فكان المولود الذي وضعته أنثى، فاعتذرت إلى الله جل وعلا والله أعلم بما وضعت، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:٣٣ - ٣٥]، أي: خالصاً, {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:٣٥].
ثم لما وجدت تلك المرأة أن ما وضعته أنثى اعتذرت إلى الله، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٦] , وجدت بك يا ربنا! هذه البنت ومن يكون من ذريتها من الشيطان الرجيم.
وقد استجاب الله جل وعلا دعوتها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويمسه الشيطان حين ولادته فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، قال أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٦]، وهذا يلاحظ مما نلمسه ونراه جميعاً أن الطفل إذا ولد فإنه يستهل صارخاً، لصدق الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ثم إن تلك المرأة دعت الله جل وعلا أن يتقبل هذا المولود قبولاً حسناً، فاستجاب الله دعوتها قال الله تبارك وتعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٧]، وهذا مدخل إلى وقفاتنا مع سورة مريم.
كان زكريا نبياً من أنبياء بني إسرائيل، وكان زوجاً لأخت مريم فلما كان زوجاً لأختها كفَّله الله جل وعلا مريم تلك بعد أن استهم القوم على تلك الكفالة، ذلك أن مريم لما توفي والدها عمران اختصم بنو إسرائيل في كفالتها رغبة منهم في رد الجميل لأبيها ذلك العبد الصالح، قال الله جل وعلا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:٤٤]، أي: القرعة والاستهام، {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:٤٤]، فهذا من أنباء الغيب الذي أنبأ الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
فكان أمر الله جل وعلا أن يكفل زكريا مريم بنت عمران، فلما كفلها جعل لها محراباً تتعبد الله جل وعلا فيه، فكان يأتيها ليطمئن عليها، فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، وفي الشتاء فاكهة الصيف، وربما وجد عندها طعاماً أو فاكهة ليست موجودة في السوق، فتعجب عليه الصلاة والسلام من هذا وقال لها كما أخبر الله في صريح المحكم: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:٣٧]؟ فكان جوابها: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧] , في هذه اللحظة تذكر زكريا عليه الصلاة والسلام حاله وأنه محروم من نعمة الولد، وكان قد بلغ من الكبر مبلغاً عظيماً، وكانت امرأته عاقراً، وكان فيه من الضعف الشديد ما لا يستطيع معه على لقاح أو جماع لزوجه، لكنه لما رأى فضل الله على مريم بنت عمران.
وهذا فيه فائدة عظيمة أن الرجل إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره من المؤمنين فليسأل الله مثلها إن أرادها، فإن الذي أنعم على غيرك قادر على أن ينعم عليك سبحانه تبارك وتعالى فبيده جل وعلا مقاليد السماوات والأرض.
فأخبر الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:٣٧ - ٣٨]، ودعا قائلاً: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:٨٩]، كما في سورة الأنبياء.
فنعود لسورة مريم، قال الله جل وعلا: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:٢ - ٣]، قال العلماء: إنه دعا الله في مكان خلي بصوت خفي، وقلب نقي، أن يرزقه نعمة الولد حتى تتم رسالة الأنبياء من بعده، لا كما يريده الناس ولداً محضاً للتجارة أو لغيرها فقد كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً ولذلك قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٦]، وكونه يرثه في المال فهذا أمر لا يحتاج إلى الإشادة؛ لأن كل الناس يرث أبناءهم آباءهم، ولكن الله نص عليه؛ لأن المقصود بالميراث هنا: هو ميراث النبوة، ومنه قول الله جل وعلا: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:١٦].
وهنا نقول: إن للدعاء فضيلة عظيمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا ندب عباده أجمعين لدعائه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:٦٠]، فسمى الدعاء عبادة.
وقد تذلل في ذلك العبد الصالح إلى رب السماوات والأرض، والوسائل المشروعة في دعاء الله متعددة، ومن أعظمها ومن أرجى الوسائل قربة عند الله: إظهار التذلل، والمسكنة، والفقر بين يدي رب العالمين، قال جل وعلا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٣ - ٤].
تبرأ من كل حول وطول وقوة إلا حول وقوة وطول رب العالمين جل جلاله، فدعا إلى الله جل وعلا بذلته، ومسكنته، وفقره، ومدى فقره إلى رحمة الله جل وعلا، وبغنى الواحد الحي القيوم عنه وعن غيره: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:٤]، ذكر بذلك ضعف الباطن، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:٤]، ذكر ضعف الظاهر، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٤]، أي: كما تفضلت علي سابقاً في إجابة دعواتي تفضل علي لاحقاً وأنت الرب الواحد الأحد صاحب المنة والفضل.
ثم بين الغرض فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٦]، ولما كان المدعو هو الله جل جلاله من وسعت رحمته كل شيء وقع فضل الله تبارك وتعالى على هذا العبد الصالح، فإذا بالملائكة تبشر هذا النبي وهذا العبد الصالح بيحيى، بل إن الله جل جلاله زيادة في الإنعام على هذا العبد الصالح اختار الله له اسم الولد، قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:٧]، وهو ما يسميه النصارى اليوم: يوحنا.
فالله جل وعلا اختار اسمه وأخبر أنه لم يسم أحد من قبل بهذا لاسم، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:٧]، ورغم أن العبد الصالح دعا الله، ورغم أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير لكنه تعجب: كيف يكون له ولد وقد كانت امرأته عاقراً وقد بلغ هو من الكبر عتياً أي: مرحلة متقدمة في السن لا تجري العادة بأن ينجب الرجل إذا بلغها ذكراً أو أنثى.
وقد حمل بعض أهل العلم قول الله جل وعلا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:٣]، أن زكريا لما دعا الله دعاه في معزل عن الناس حتى لا يسخر منه أحد، فهو رجل كبير بالغ مرحلة متقدمة في السن، ومع ذلك يرجو الولد ولكنه يعلم فضل الله جل وعلا ورحمته، فلما جاءته البشارة وتعجب منها أخبرته الملائكة أن الله خلقه -أي: زكريا- من قبل ولم يكن شيئاً.
فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ثم إن زكريا أراد من ربه علامات وأمارات بقرب تلك البشارة؛ ليطمئن قلبه وتستقر نفسه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:١٠]، وهذه الآية ظاهرها أنها ثلاث ليال متتابعات، وهذا على الصحيح خلاف الصواب, والصواب: أن المقصود بقول الله جل وعلا: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:١٠]، أي: أنك -يا زكريا- لا تستطيع أن تكلم الناس رغم أنك رجل سوي الخلقة، تام من غير نقص فليس بك علة وليس بك مرض ومع ذلك لا تستطيع أن تكلم الخلق إلا بالإشارة كما قال في آية آل عمران: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:٤١]، أي: بالإشار