للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفاته صلى الله عليه وسلم]

ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته يشتد عليه الوجع، ويرى من الكرب ما الله به عليم، حتى كان يوم الإثنين الثاني من شهر ربيع الأول على الصحيح -والثاني عشر من شهر ربيع الأول على قول الجمهور- وكان الناس في صلاة الفجر، وأبو بكر يصلي بهم، وإذا به صلى الله عليه وسلم يكشف الستار الذي بينه وبين المسجد فرآهم يصلون خلف أبي بكر فتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وكادوا يفتنون عن صلاتهم فرحاً وظناً منهم أنه برأ، فهم أبو بكر أن يرجع فأشار إليهم أن على مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودع.

ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)، ثم إنها دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال، ودخل عليه أسامة، فقالت فاطمة: (واكرب أبتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم).

فدخل عليه أسامة وأشار إليه أن ادع لي! فلم يستطع صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أن يدعو له بلسانه، ولكنه رفع يديه يدعو لـ أسامة في سره.

ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن صلى الله عليه وسلم وحد النظر في عبد الرحمن ففهمت عائشة أنه يريد المسواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أن نعم، ولم يستطع أن يقولها بلسانه، فأخذت المسواك من أخيها وقضمته، ثم طيبته وألانته، ثم أعطته رسول الله فاستاك به صلى الله عليه وسلم، كآخر عمل يصنعه في الدنيا، ثم أرجأه، ثم سمعته عائشة وقد أسندته إلى صدرها وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اغفر لي وارحمني، اللهم اغفر لي وارحمني، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، كررها ثلاثاً، رافعاً أصبعه السبابة حتى كان آخر ما قاله من الدنيا: (بل الرفيق الأعلى).

ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه، فوضعته عائشة على الأرض، وكان سنها يوم ذاك ثمانية عشر عاماً، ثم خرجت تلطم خدها مع من يلطمن من النساء، فشاع خبر وفاته فأصبح الناس فيه بين مفتون ساكت، وغير مصدق، قد أذهلهم الخبر، وداهمتهم الفجيعة، وحق لهم ذلك والله! وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه في السنح -أي: في الحرة الشرقية- فأتاه رجل فأخبره الخبر، فعاد رضي الله عنه وأرضاه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على رسول الله وهو مسجى في بيته، فكشف عن وجهه، وأتاه من قبل رأسه، ثم حدر فاه إلى جبهته وقال: واصفياه! ثم قبله أخرى وقال: وانبياه! ثم قبله أخرى وقال: واخليلاه! ثم قبله وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، وأما غير ذلك فلن يكتبه الله عليك أبداً.

ثم غطاه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وسجاه، ثم خرج إلى الناس يقتحم الصفوف وعمر واقف، فقال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، قال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، فحمد الله وأثنى عليه، فترك الناس عمر وأقبلوا على أبي بكر فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]، فكأن الناس لم يعلموا هذه الآية إلا يوم تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وما كان أحد من الخلق إلا وأخذ يرددها.

ثم إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم انشغلوا بأمر الخلافة، فلما فرغوا من بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه تفرغوا لرسولهم صلى الله عليه وسلم، فتولى غسله عليه الصلاة والسلام أهل بيته: العباس وولداه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وصالح مولاه وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.

ولم ير منه صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت؛ لأنهم عندما أرادوا أن يغسلوه احتاروا هل يجردونه صلى الله عليه وسلم أم لا، فألقى الله عليهم النوم فأصابتهم سنة فسمعوا منادياً يناديهم: أن اغسلوا رسول الله وهو في قميصه، فغسلوه صلوات الله وسلامه عليه وهو في قميصه يقلبه العباس وولداه، ويصب الماء أسامة وصالح، ويغسله بيده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وبينما هم يغسلونه استأذن أوس بن خوري بدري من الخزرج نادى على علي من وراء البيت: يا علي! أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أدخلتني، فأذن له علي رضي الله عنه، فدخل أوس فأخذ ينظر دون أن يشاركهم في الغسل، فلما فرغوا من غسله كفنوه صلوات الله وسلامه عليه، وهو سيد ولد آدم، وخير خلق الله، أقسم له ربه بأنه ما ودعه وما قلاه، ومع ذلك يكفن كما كفن الموتى في ثلاثة أثواب.

ثم وضعوه صلى الله عليه وسلم على سرير، ثم حفروا له لما أخبرهم أبو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ما من نبي يقبض إلا ويدفن حيث قبض)، فحفروا له بعد أن بعثوا إلى رجلين: أبي عبيدة وكان يحفر القبر شقاً، وأبي طلحة من الأنصار كان يلحد لحداً.

فالذي ذهب إلى أبي طلحة وجده فعاد معه فحفروا له صلى الله عليه وسلم.

ثم إنهم قبل أن يدفنوه وضعوا سريره على حافة القبر، ثم استعظموا أن يصلي أحد بهم إماماً على رسول الله صلى الله علي وسلم، فصلى عليه العباس وهو أسن بني هاشم أول الناس، ثم صلى عليه عصبته وقرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه النساء، ثم صلى عليه الصبيان، ثم صلى عليه العبيد صلوات الله وسلامه عليه.

صلوا عليه أرسالاً كل منهم يصلي لوحده، فلما فرغوا من الصلاة عليه نزل في قبره قثم والفضل وعلي بن أبي طالب ومولاه شقران رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فنزلوا في قبره الطاهر الشريف، فوضعوا جسده في اللحد، ثم بنوا عليه تسع لبنات، ثم حثوا التراب على ذلك القبر الطاهر الشريف حتى أتموا دفنه صلوات الله وسلامه عليه.

يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم أيها المؤمنون! هذا على وجه الإجمال موت رسولكم صلى الله عليه وسلم.

لا ريب أن الإنسان يعلم أن حديثاً كهذا لا يحتاج إلى بليغ تهتز له المنابر، ولا إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائر، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن رحيل حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن حبيبنا الذي بلغ دين الله، وأرشد إليه، وناجى ربه، ودعا إليه، وكان أرحم الخلق بالخلق، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه لما زار بقيع الغرقد: (وددت لو أني رأيت إخواني فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض)، أي: سابقهم إليه، فصلوات الله وسلامه عليه.