للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العفو عند المقدرة]

ومن خصائص المجتمع المدني الذي من الله جل وعلا عليه بالحياة السعيدة آنذاك العفو عند المقدرة، والعفو شيم من شيم الكرام كانت العرب تتغنى به في الجاهلية، فلما بعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ربى أمته على هذه الخصلة، وجاء القرآن من قبل بها فقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:٢٣٧]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠]، فكلها رغائب ذكرها جل وعلا في كتابه تحث المؤمنين على العفو، ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من ملك ثم عفا من البشر، يقول بعض أهل السير: إن أبا سفيان بن الحارث -وهو أحد خمسة يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن والحسين وقثم والفضل وأبو سفيان بن الحارث رضي الله تعالى عنهم جميعاً- يقولون: إن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يقرض الشعر ويهجو النبي عليه الصلاة والسلام حتى أهدر دمه، فلما من الله عليه بالهداية استحيا من دخوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إن إحدى أمهات المؤمنين أشارت عليه بأن: قل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:٩١] فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد خيراً منه.

أي أنه ينافس في الطاعات ويسابق في الخيرات صلوات الله وسلامه عليه، فلما قالها قبل النبي صلى الله عليه وسلم خطابه وعفا عنه.

وأعظم ما يدفع إلى مثل هذا انتظار الفضل من الله؛ لأن الله أبهم -أي: لم يبين مقدار الجزاء لمن عفا الله عنك- فقال جل وعلا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠]، وما أبهمه الله جل وعلا في هذا الموقف فإن سياق القرآن يدل على أنه شيء عظيم تشرئب إليه الأعناق، وينشده الأفاضل من الرجال والنساء، ولا ريب في أن من أعظم ما يمكن أن نتعلمه من الدين أن كل من أوقفه الله جل وعلا ضعيفاً بين يديك وأردت أن تعامله فعامله بمثل ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت بين يديه.