الأمر الثالث: لا بد من أن يكون لنا سلف نقتفي آثارهم ونتبع هديهم، ومن أولئك السلف أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا مثنياً عليهم:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:١٠٠] الأنصار: اسم رباني جاء ذكره في القرآن، وهم قبيلتان من اليمن سكنتا المدينة في العهد الأول يقال لهما: الأوس والخزرج، والأوس والخزرج في الأصل ولدان لرجل يقال له: حارثة، وأمهما اسمها قيلة بنت كاهل، ولذلك كانوا ينادون كثيراً (يا بني قيلة) فسكنوا المدينة بقدر الله حتى يكون بعد ذلك استقبالهم لنبي آخر الزمان صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان النبي في مكة يعرض دعوته على القبائل في موسم الحج، فقابله نفر من الخزرج قبل بيعتي العقبة الأولى والثانية، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:(من أنتم؟ قالوا: نحن من الخزرج قال: من موالي اليهود؟ -أي: من حلفاء اليهود- قالوا: نعم.
قال: أنصتوا إليَّ) فأنصتوا فتلا عليهم صلى الله عليه وسلم آيات من سورة إبراهيم، فكتب الله لهم أن آمنوا وقبلوا، ثم لما رجعوا إلى المدينة أخبروا قومهم، فلما كان العام الذي بعده جاء وفد من الأوس ومن الخزرج وكانت بينهما حروب واقتتال عظيم، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بايعوه بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير معهم، ثم كانت بيعة العقبة الثانية، ثم أذن الله لنبيه بأن يهاجر إلى المدينة، فاستقبلوه رضي الله عنهم وأرضاهم، ودخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة بعد أن قطع بطن وادي ريم في جنوب المدينة الآن، فدخلها من الجنوب من جهة قباء، فمكث في قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي يوم الجمعة قبل الزوال دخل المدينة بعد أن بعث إلى أخواله من بني النجار، فجاءوا متقلدين السيوف، فدخلها صلى الله عليه وسلم وسمع في نواحيها التكبير وهو على ناقته القصواء يقول:(خلو سبيلها فإنها مأمورة)، فإذا كانت ناقته صلى الله عليه وسلم تسير بأمر الله فما بالك بهديه صلوات الله وسلامه عليه؟! الله قسَّم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله لا منك أو نعم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم وبركت الناقة في موضع المنبر اليوم ولم ينزل، ثم قامت فجالت جولة، ثم رجعت إلى مبركها الأول، ثم نزل صلوات الله وسلامه عليه، فبادر أبو أيوب الأنصاري وأخذ رحل رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام:(المرء مع رحله) ومن ذلك اليوم أخذ الأنصار يقدمون النماذج الإيمانية في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من جاهد بلسانه، ومنهم من جاهد بسنانه، ومنهم من جاهد بالاثنين وهم كثير، وكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- نعم السلف لنا مع إخوانهم من المهاجرين.
مضي السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واصنعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الواقع الزاهي بناء مرفع