الوقفة الثالثة أيها المؤمنون مع قول ربنا تبارك وتعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات:٢٤].
هذا الأمر فيه من الموعظة العظيمة البليغة من ربنا تبارك وتعالى إلى عباده الخُلّص، وهذا السؤال إنما يكون في اليوم الموعود والحدث المشهود، والعرض الأكبر بين يدي الله جل وعلا، ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه خل خليلاً، ولا صديق صديقاً، ولا والد ولداً، ولا أم ابناً، ولا زوج زوجاً، وإنما ينفع الإنسان رحمة الله وعمله الصالح؛ وهذا اليوم من أجله ظمئ المؤمنون في الهواجر، ومن أجله قام المؤمنون الخُلّص الليل خوفاً من ذلك اليوم وذلك الفزع، ومن أجل هذا اليوم كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ويطعم الجائع، ويصوم، ويفعل ما يفعل من سائر العبادات ومن أجل ذلك اليوم صبر نوح، وابتلي إبراهيم، ومن أجل ذلك اليوم كان وما زال المؤمنون الخُلّص يستغفرون ربهم ويجأرون بالدعاء إليه خوفاً من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، وخوفاً أن يعجز العبد عن أن يجد جواباً يوم يقف بين يدي الله جل وعلا، قال الصادق المصدوق:(لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ ويسأل عن علمه ماذا عمل به؟) ولذلك قال بعض الصالحين: وإذا الصبي بأمه متعلق يخشى العقاب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور لو قارنت بين ذلك الامتحان وبين الامتحان الدراسي الذي تذهب به على سيارتك، أو بسيارة أبيك، أو مع قرينك، فذلك اليوم واحد من أمرين {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم:٨٥] جعلنا الله منهم، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم:٨٦] وفي الامتحان الفصلي تقف بين يدي المعلم ربما لو خدعته لانخدع، لكن يوم القيامة تقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية، في الامتحان الفصلي تسأل عن قاعدة نحوية، أو مسألة رياضية، أو غير ذلك مما درسته؛ لكنك يوم القيامة تسأل عن كل صغيرة وكبيرة:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:٤٩] في الامتحان الفصلي المسألة إن كان هناك وإلا وانتظر الدور الثاني أو اترك إلى عمل آخر، لكن في ذلك اليوم واحد من أمرين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى:٧].
يقول الله جل وعلا عن أهل الجنة:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:٢٣ - ٢٤] ويقول جل ذكره عن أهل النار، يخبر عن مسائلة الملائكة لهم:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر:٧١ - ٧٢].
الهدية في هذه الدنيا ربما كانت شيكاً مفتوحاً من والدك هذا إن قلنا: إن والدك غني مترف ذو مال واسع وهذا المال تأخذه اليوم إما أن تتركه، أو أن المال سيتركك، فلا بد أن تفارقه رضيت أم أبيت، ولكن الجائزة يوم القيامة لذة النظر إلى صاحب الوجه الأكرم إلى وجه ربنا تبارك وتعالى، وهذه لذة لا تعدلها لذة، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
الرسوب بين يدي أقوام وأخلاط لا يتجاوز عددهم أصابع اليد تعتذر إليهم عنه بأي أمر، ولكن الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وعلى رؤوس الخلائق يُنادى فلان ابن فلان ثم يوصف بما فيه والعياذ بالله، النبيون وهم النبيون دعاؤهم يوم القيامة: اللهم سلم سلم؛ مما يرون من الأهوال والشدائد، ومما يرون من عظائم الأمور.