للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة إلى قوله: فكانت هباء منبثاً)

أما قول الله جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:١]، فالواقعة: اسم من أسماء يوم القيامة، كما دلت الآيات على ذلك، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:١٤ - ١٥].

وقول ربنا جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:١ - ٢] اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى (كاذبة) في هذه الآية: فقال فريق منهم: إن كاذبة: مصدر جاء على هيئة اسم الفاعل، كقول العرب: عافية، بمعنى: مُعَافَاة، وقولهم: عاقبة، بمعنى: عُقْبَى؛ وعلى هذا التحرير يصبح المعنى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:٢]، أي: ليس لوقعتها كذب، أي: أن وقوعها حق لا مرية فيه، وهذا القول من قول أئمة أهل الشأن يؤيده قول الله جل وعلا: ? {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:٨٧]، ويؤيده قوله الله جل وعلا حكاية عن الصالحين من خلقه: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:٩].

القول الثاني: هو أن قول الله جل وعلا: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:٢] أن كاذبة هنا: صفة لموصوف محذوف، والتقدير: إذا كان يوم الواقعة، إذا كان يوم القيامة فلن تكون هناك نفس كاذبة لما ترى، أي لا توجد نفس تكذب ما ترى، ويؤيده قول الله جل وعلا: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨]، لكن الأول أظهر، والعلم عند الله.

قال سبحانه: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:٣]، اتفق العلماء على أن قوله: (خافضة رافعة) يعود على يوم القيامة؛ إذ أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خافضة رافعة، لكن الإشكال وقع في ماهية الذي يُخفض والذي يُرفع؟ والجواب عن هذا: أن لأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم في هذا ثلاثة أقوال: القول الأول: إنها تخفض أهل الكفر إلى النار، ويؤيده قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، وترفع أهل الطاعات إلى أعالي الجنان، ويؤيده قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:٧٥].

والقول الآخر: إنها تخفض من كان مرتفعاً بطغيانه في الدنيا، وهو قريب من القول الأول، وترفع من كان الناس يحتقرونه في الدنيا لإيمانه، وأصحاب هذا القول يؤيدهم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:٢٩ - ٣٦].

القول الثالث -وهو أرجحها عندي والعلم عند الله- أن المعنى: أن هناك أجراماً تكون خافضة فيرفعها الله، وأجراماً تكون مرتفعة فيخفضها الله لشدة أهوال يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:١ - ٢]، وقال ربنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:٨٨].

فهذه أقوال أئمة أهل الشأن في هذه الآية، وأرجحها -كما قلنا والعلم عند الله-: أنها تتعلق بالأجرام الكونية، وكيف أن يوم القيامة يوم عظيم ينجم عنه ما ذكرناه وذكره الله جل وعلا من قبل في كتابه فقال: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:٣]، ثم ذكر الله جل وعلا بعض أهوالها فقال: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:٤ - ٥]، ومن الممكن أن يكون البَسُّ هنا بمعنى: سُيِّرت، وقد جاء القرآن بهذا المعنى، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:٣].

وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن معنى قول الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:٤ - ٥]: على أن البَسَّ هنا: أنها تصبح كالعهن المنفوش، وقد ذكره الله جل وعلا في سورة القارعة.

فإذا أردنا أن ننيخ المطايا هنا عند الجبال، فالجبال خلق من خلق الله، يتعجب منها رائيها، وقد صح في الخبر الصحيح: (أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، ثم جعل الله جل وعلا الجبال عليها رواسي فتعجبت الملائكة من ذلك فقالت: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الجبال؟ قال الله: نعم، الحديد، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الحديد؟ قال الله تبارك وتعالى: نعم، النار، قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من النار؟ قال ربنا تبارك وتعالى: نعم، الماء، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الماء؟ قال الله جل وعلا: نعم، الريح -لأن الريح تحمل الماء- قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من الريح؟ قال الله جل وعلا: ابن آدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

ولما كانت الجبال تُرى كان بدهياً أن يسأل عنها الناس، قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٥ - ١٠٧]، لكن نسفها آخر المطاف، وإنما تمر بأحوال وأطوار قبل أن تنسف، قال الله جل وعلا كما مر معنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:٨٨]، وقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:٣]، فتمر بمراحل وأطوار حتى تصل إلى أن تذهب بالكلية، لكن الله جل وعلا أرشد إلى أن الجبال لها وضع آخر؛ كونها من أعظم مخلوقاته، فإن النصارى -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- نسبت إلى الله الولد فرية وبهتاناً وكفراً، وما عرفوا قدر ربهم جل وعلا، فأخبر الله جل وعلا أن الجبال على عظيم خلقتها تستنكر هذا الأمر وتستعظمه، ولا يمكن أن تقر به، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٨٩ - ٩٣]، ولما أراد الله جل وعلا أن يبين لكليمه موسى ضعفه وعجزه في الدنيا عن أن يرى الله قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، وذكر الله جل وعلا نبيه وعبده الصالح داود عليه السلام، وذكر ربنا أنه آتاه صوتاً رخيماً، ثم لما كان يتلو الزبور ويذكر الله جل وعلا كانت الجبال على عظيم خلقتها تتجاوب معه، قال ربنا جل شأنه: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:١٠]، وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:١٨ - ١٩]، ولا أعلم حديثاً ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجبال في الجنة إلا حديثا واحداً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطفال المسلمين في جبل في الجنة في كفالة إبراهيم وسارة يَرُدُّوهم يوم القيامة إلى آبائهم)، هذا الذي أستحضره الساعة من السنة في ذكر الجبال في جنات عدن، رزقنا الله وإياكم إياها.

قال الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:٤ - ٧]، ثم ذكر الله جل وعلا أولئك الأزواج، وكلمة زوج في اللغة: هو كل فرد انضم إلى غيره، فهذا يسمى: زوجاً ولو كان فرداً.