للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل البقيع وأهله]

العبرة الثانية: فضل البقيع: فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في أخريات حياته أن يأتي إلى بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة بين الفينة والفينة، حتى قال بعض العلماء: إنه كان صلى الله عليه وسلم ربما أتاه في كل أسبوع، فكان يأتي صلوات الله وسلامه عليه يدعو لأهله، ويستغفر لهم، ويدعو الله جل وعلا أن يمحو عنهم الخطايا، ويقيل عنهم العثرات.

أخرج الإمام مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها أنها قالت: (بات عندي رسول الله صلى الله علية وسلم ذات ليلة، وخلع نعليه ووضعهما عند قدميه، قالت: ثم لبث قليلاً حتى شعر أنني رقدت، ثم لبس نعليه رويداً، وأخذ رداءه رويداً، ثم مشى رويداً، وفتح الباب وأجفاه رويداً، قالت: فاختمرت وتقنعت ولبست إزاري وتبعته قالت: فإذا به يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، ويدعو لهم ثلاثاً رافعاً يديه، قالت: ثم انحرف فانحرفت، ثم هرول فهرولت، ثم أسرع فأسرعت، فدخلت البيت قبله، فلما رآني نائمة رضي الله عنها قد حفزني النفس قال: ما لك يا عائش! حشيا رابية -أي: أن صدرك يعلو وينزل- قالت: لا شيء يا رسول الله! فقال صلوات الله وسلامه عليه: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير؟ فلما قالها استكانت رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأخبرته بالخبر فقال: أنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قالت: نعم يا رسول الله! قالت: فلهدني لهدة في صدري أوجعتني، ثم قال لي: يا عائشة! إن جبرائيل أتاني وقال لي: إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: وما كنت لأدخل جبريل عليك وقد خلعت ثيابك، وخشيت أن أوقظك، فقالت له رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول الله! فماذا أقول إن أنا أتيتهم؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وأنتم السابقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للالحقون).

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم تنشق الأرض عن أهل البقيع فيحشرون معي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأنتظر أهل مكة فتنشق الأرض عنهم فنحشر أنا وإياهم بين الحرمين)، صلوات الله وسلامه عليه.

فالموت في المدينة فضيلة وأي فضيلة، قال عليه الصلاة السلام: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإني أشفع لمن يموت بها)، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن أحداً لا يعلم متى يموت، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل)، أي: أن يكون غالب وقته، وعيشه، وغدوه ورواحه في المدينة التي حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم.

فالبقيع قد دعا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لأهله، وقد قال بعض العلماء: إن دعوته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ربما تشمل من يدفن فيه بعد موته صلوات الله وسلامه عليه، والحق أن النص يحتمله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)، ولم يخصص زماناً ولا قوماً ولا أناساً، وإنما جعلها مطلقة وذلك الظن به وبرحمته صلوات الله وسلامه عليه.