والعلم سهل، فلا يصيبك شيء من اليأس، فإن العلم يحتاج إلى صبر، أعطيك فائدة في قضية الصبر: أنتم تعرفون أبا حنيفة رحمة الله تعالى عليه إمام عظيم، وقد كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يتيماً، واسمه يعقوب: وأمه كانت تقول له: يا أبا يوسف! فالظاهر أنه مكنى وهو صغير، وقد كان يتيماً تذهب به أمه عند حائك، أي: خياط ثياب، تريد أن يتعلم منه، فيعطيه دانقاً، والدانق لا يذكر في ذلك الزمان هو مثل القروش الآن، فكان يعطى دانقاً في اليوم، وكأنه جلس عند أبي حنيفة مرة أو مرتين فتوسم فيه الذكاء، فصار يأخذه من الحائك ويضعه في الحلقة، فحدث خصام بين أم أبي يوسف وبين أبي حنيفة، فجاءت أمام الناس تقول: أنت من ضيع ولدي وسبته، فقال أبو حنيفة -ومن مثل أبي حنيفة في الفراسة-: اذهبي عني يا رعناء! إن ابنك سيأكل الفالوذج بدهن الفستق، والفالوذج نوع من الحلوى، وهو في ذلك الزمن لا يوجد إلا عند الأثرياء، وأما الفالوذج بدهن الفستق فلا يوجد إلا في بيوت الخليفة مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً بالسنة فهو لا يوجد ولا أحد يراه، فقالت: والله إنك شيخ خرف، فهي لا ترى أمامه إلا ولداً ضعيفاً يتيماً، فمات أبو حنيفة وماتت الأم، وصار أبو يوسف قاضي القضاة، فقال يحكي ذلك: والله! لقد جلست مع الرشيد أمير المؤمنين على مائدته، فجيء بطعام لا أعرفه، فقربه الرشيد مني وقال: يا أبا يوسف كل، قلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا لا يصنع عندنا إلا قليلاً كل منه، هذا فالوذج بدهن الفستق، قال: فضحكت، فتعجب الخليفة وقال: ما يضحكك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين! وأخبره بالقصة.
فقال هارون الرشيد رحمة الله تعالى عليه: لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقله ما لا يراه غيره بعيني رأسه.
فكل مجد تريده لابد فيه مع التقوى إلى الصبر، والله أعلم.
الملقي: الوقفة الثالثة: مع قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:٤]، وستعنى هذه الوقفة بالمعنى اللغوي لكلمة (أم) مع بيان الآية إجمالاً.
الشيخ: الله يقول: (وإنه) الضمير عائد على القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:٤]، أم الكتاب: هو اللوح المحفوظ، وفيه أقدار بيد الملائكة، مكتوبة بيد الملائكة، وبعض أهل العلم يقول: إن ما في أم الكتاب لا يقبل التبديل، وهذا حق، فالذي في أم الكتاب (اللوح المحفوظ) لا يقبل التبديل، وأما المكتوب بيد الملائكة فربما أصابه بعض التبديل، وهذا له شواهد، قال الله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[الرعد:٣٩] فيما بين يدي الملائكة، {وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩] أي: اللوح المحفوظ.