للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع قول الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين فكان من المدحضين)]

الوقفة قبل الأخيرة مع قول ربنا تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٣٩ - ١٤١] إلى آخر الآية.

يونس بن متى نبي من أنبياء الله، نص الله على رسالته في القرآن، وقد ثبت أو ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لما أكثر عليه أهل الطائف من الأذى حن عليه اثنان من أهل الطائف يقال لهما: ابنا ربيعة، فأخذا غلاماً لهما يقال له: عداس فأعطاه عنقوداً من عنب، وقالا: امض به إلى ذلك الرجل كنوع من العاطفة الإنسانية، فلما وضع عداس عنقود العنب بين يدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهم عليه الصلاة والسلام أن يأكل قال: (بسم الله) فقال عداس وقد عجب من هذه الكلمة قال: والله هذه كلمة لا يقولها أهل هذه البلاد، فقال عليه الصلاة والسلام لـ عداس: (ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟) قال: أنا نصراني من بلاد نينوى فقال عليه الصلاة والسلام: (من بلاد يونس بن متى) فقال العداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، فهو نبي وأنا نبي) فهذا ما ورد في السنة إن صح الخبر، ذكره أهل السير عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

فيونس عليه السلام بعثه الله جل وعلا إلى قومه، فأخذ يدعوهم ويحذرهم العذاب، فلم يستجيبوا له، فلما لم يستجيبوا له خرج غاضباً عليه الصلاة والسلام دون أن يستأذن ربه فيما يظهر لنا والله أعلم، فلما خرج ركب في سفينة، فمضت تلك السفينة بمن فيها، فلما غلبتهم الأمواج وكادت السفينة أن تغرق، أرادوا أن يستهموا بالقرعة ليلقوا أحدهم حتى ترسو السفينة، فاشترك معهم يونس في القرعة، قال الله جل وعلا: {فَسَاهَمَ} [الصافات:١٤١] أي شارك في القرعة، فلما ساهم وقعت القرعة عليه، قيل: إنهم قالوا: أما أنت فلا، فأعادوا القرعة مرة أخرى فوقعت عليه، وهكذا مرة ثالثة، فألقوه في البحر، فلما ألقوه في البحر ابتلعه حوت، أمره الله أن يبتلع يونس، فلما ابتلع الحوت يونس أوحى الله إلى الحوت ألا يكسر له عظماً، ولا يأكل له لحماً، وأن يكون له قبراً مؤقتاً، فمضى يونس في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وبدأ يحرك يديه ورجليه فاستجابتا له، وعلم أنه حي في تلك الظلمات، وسمع -على ما قاله أهل العلم- تسبيح الحيتان، وتسبيح من هم في قعر البحار للواحد الأحد الفرد الصمد نادى ذلك العبد ربه في تلك الظلمات، قال الله جل وعلا: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤] وقول الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:١٤٣] يفسره قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٧ - ٨٨].

وإنها -أيها المؤمن- دعوة وتسبيح وذكر لمن وسعت رحمته كل شيء، قال العلماء: سبح يونس في ظلمات البحر لعالم السر والنجوى، ولجأ إلى من يكشف الضر والبلوى، وإلى من يسمع الدعوات وإن خفيت وإلى من يجيب الدعوات وإن عظمت، وإلى من يعلم الخفيات وإن دقت فكان إكرام الله له {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:٨٨] هذه ليونس {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٨] هذه لغير يونس من المؤمنين لمن يلجأ إلى الله جل وعلا، فالجئوا إلى الله في السراء والضراء بهذا الدعاء العظيم، وعلموا أنفسكم وأزواجكم، وبناتكم، وأبنائكم أن يلجئوا إلى الله بهذه الدعوة النبوية، والتي أقرها الله في كتابه، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي قول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فقد جمعت أمرين عظيمين: الأول: توحيد الله، وبه تعبد الله الخلائق، والثاني: الإقرار بالذنب وإظهار الذلة والمسكنة، وهي من أعظم الوسائل لإجابة دعوة الله تبارك وتعالى؛ فلما كان هذا منه واستجاب الله له، أمر الله الحوت أن يلقيه ويقذفه خارج البحر، فلما ألقاه الحوت وقذفه خارج البحر خرج ضعيفاً مسكيناً كأنه لتوه مولود في رقة لحمه وعظمه، فأنبت الله له رحمة به -شجرة اليقطين، وهي فيما نعلم- شجرة الدباء في اتساع ورقها، فأخذت تظلله، قال الله جل وعلا: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:١٤٦] ثم رده الله إلى قومه ليدعوهم من جديد.

عاد ذلك النبي إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:١٤٦ - ١٤٨].

قوم يونس لما خرج منهم نبي الله يونس مغاضباً -كما قد علمنا- ندموا على ما كان منهم، وكان العذاب قد أضلهم ورأوه عياناً، فلما رأوه عياناً جأروا إلى الله جل وعلا، فخرجوا إلى ظاهر القرية وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم وبناتهم وأبناءهم صغاراً وكباراً تضرعاً إلى الله، وأخذوا يجأرون بالدعاء الصغير منهم والكبير، حتى إنهم أخرجوا معهم مواشيهم وإبلهم وبقرهم وضأنهم وأغنامهم، حتى قال العلماء: إنهم فصلوا بين الغنم وحملانها، وفصلوا بين البقر وأولادها، وفصلوا بين الإبل وأولادها كذلك حتى يكون أدعى في أن تلك الأغنام وتلك الأبقار وتلك الإبل تجأر إلى الله جل وعلا بالصياح والنحيب، ولقد كانت ساعة عظيمة لم يرى مثلها، والله جل وعلا مضت سنته في الخلق أن الإيمان نوعان: إيمان اضطراري، وإيمان اختياري فالإيمان الاختياري: هو أن الإنسان يؤمن في لحظات اختيار لحظات لا يرى فيها العذاب عياناً، فهذا يقبله الله جل وعلا، والساعة الأخرى لحظات الإيمان الاضطراري: حين تغرغر الروح، وحين يرى القوم العذاب؛ فهذا لا يقبل الله في وقته، ذلك الإيمان على ما مضت به السنن، إلا قوم يونس فإن الله جل وعلا استثناهم -برحمة وفضل منه- من هذه السنة، والدليل: قول الله جل وعلا في سورة يونس: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:٩٨] فالأصل الذي جرت به سنن الله في الكون أن الله لا يقبل الإيمان الاضطراري، ففرعون لما رأى العذاب {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠] مع ذلك ما قبل الله منه، قال الله جل وعلا: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١] أما قوم يونس فلأمر ولحكمة أرادها الله، ولرحمة أرادها الله أن تنزل على أولئك الأقوام، فقد شملتهم رحمة الله واستثنوا من تلك السنة الماضية فقبل الله إيمانهم، قال الله جل وعلا: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:١٤٨] وبناءاً على هذا اختلف العلماء رحمهم الله هل إيمان قوم يونس كما كشف الله به عنهم العذاب الدنيوي هل يكشف به عنهم العذاب الأخروي؟ على قولين لأهل العلم، ولعل الأرجح والصواب -والله تعالى أعلم- أنه ينفعهم أخروياً كما ينفعهم دنيوياً؛ لأن رحمة الله جل وعلا تغلب غضبه.

وهنا في هذه القصة العظيمة لنبي الله يونس دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يفزع إلى الله جل وعلا بالشدائد، وأن يلجأ إليه عند حلول النقم، وأن يلجأ إليه عند نزول الفتن، وأن يستغيث به تبارك وتعالى وحده، وأن يعلم أن الله يكشف الضر والبلوى كما أنه تبارك وتعالى يعلم السر والنجوى.