للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثقة الأنبياء بوعد الله تعالى]

الأمر الثالث الذي يستسقى من حياة أنبياء الله ورسله: ثقتهم العظيمة بوعد الله جل وعلا، فأولئك الرسل على ثقة عظيمة بما وعدهم الله جل وعلا به، سواء في حياتهم الخاصة أو في حياتهم العامة وفي شئون المسلمين جميعاً.

أما في حياتهم الخاصة فخذ مثلاً نبي الله يعقوب، فإنه ابتلي أولاً بفقد يوسف، ثم ابتلي بفقد بنيامين، ثم ابتلي ببقاء بعض أبنائه في أرض مصر، وهو في كرب وهم وغم وحزن، وبعض بنيه حوله يخبرون عنه أنه شيخ هرم قد أصابه التخريف وأصابه الهذيان، ومع ذلك كان على ثقة بوعد الله جل وعلا في حياته الخاصة، وكان يقول لهم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:٨٣]، فهذه ثقة عظيمة بوعد الله تبارك وتعالى، ولقد صدق الله يعقوب وعده، فجمعه ببنيه، وأنزله المنزلة والمقام الكريم، وأدخله أرض مصر معززاً مكرماً، قال الله تبارك وتعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:١٠٠]، وقال قبلها: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:٩٩]، فهذا من عظيم الثقة بوعد الله تبارك وتعالى.

ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لحقه فرعون وهامان وجنودهما وأصبحوا على مقربة منهما، وعاين أصحاب موسى الموت والقتل عياناً رأوا فرعون وجنوده ورأوا البحر، فإما ضرب الرقاب وإما الغرق، فقالوا إرجافاً كما أخبر الله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] بقي حال النبي الكريم الواثق بوعد الله جل وعلا ونصره وعظيم الثقة بربه، قال: (كلا) أي: لن يكون ما ظننتموه، لِمَ يا موسى؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فلما كان على عظيم الثقة بنصر الله جل وعلا جاء الأمر الرباني والوحي الإلهي، قال الله جل وعلا له: ((اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) فضرب: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٦٣] فنجى الله جل وعلا موسى ومن معه، وأغرق فرعون وجنوده؛ نصراً لنبيه وكليمه موسى، وتحقيقاً لوعد الله له، وإثباتاً أن موسى كان على حق عظيم عندما وثق برب الأرباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب سبحانه وبحمده.

ونوح عليه السلام تكالب عليه قومه، فآذوه وفعلوا به ما فعلوا، فلما أيس منهم لجأ إلى الله جل وعلا، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠]، فهذه كلمة واحدة دعا بها مجموعة في ستة أحرف (فانتصر) كلمة لا غيرها، فلما قالها وهو على يقين بنصر الله قال الله جل وعلا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} لِمَ؟ {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٠ - ١٤] أي: نصراً لهذا الذي كذبه قومه، ووصفوه بالجنون وازدجروه وحاربوه، وحاربوا دين الله جل وعلا وآياته وما أوحى الله تبارك وتعالى به.

وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يخبره من بعثه إلى أبي سفيان بعد غزوة أحد عند حمراء الأسد: أن أبا سفيان سيعود ليكرر الكرة عليهم، وليستأصل شفعتهم، فلما أُلقي عليه ذلك الخبر يقول صلى الله عليه وسلم وكما أخبر الله عنه وعن أصحابه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، ولذلك روى البخاري في الصحيح أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (إن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد قومه أن يلقوه في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم).

فمما يسترشد به من نبأ المرسلين ثقتهم بوعد الله، ونحن إن أخلصنا لله النية، وصدقنا لله العمل، وأخذنا بشريعة الله جل وعلا فلنكن على ثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وليس شرط النصر أن يأتي في زمن أنا وأنت فيه، ولكنه يأتي لا محالة لمؤمنين ينصرهم الله تبارك وتعالى، والله قال وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨]، وقال تبارك وقوله حق: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:١٤١]، فالثقة بوعد الله جل وعلا ونصره يجب أن تغرس في قلبي وقلبك، ويجب أن نكون جميعاً على عقيدة صافية أكيدة واثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وإن تأخر النصر فلحكمة ربانية، فإن بعد الليل فجراً، فالله جل وعلا يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:٥ - ٦].