للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون إلى قوله: ترجعونها إن كنتم صادقين)]

ثم قال تبارك وتعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:٨١ - ٨٢]، قوله: ((رِزْقَكُمْ)) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أن تكون بمعنى: الشكر، وهذا وارد في كلام العرب، فيصبح المعنى: وتجعلون شكركم لِمَا أفاء الله عليكم من نعم أنكم تكذبون بهذا القرآن، وهذا قول جيد في السياق، لكن الأحاديث وردت بخلافه.

والقول الثاني: وهو الذي تؤيده الأحاديث -كما عند مسلم في الصحيح- أن المعنى: وتجعلون رزقكم أي: ما ينزل عليكم من السماء من مطر، ويؤيده حديث مسلم: مطرنا بنوء كذا، وآخرون قالوا: مطرنا بفضل الله ورحمته فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله جل وعلا: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكواكب)، على هذا حمل أكثر المفسرين معنى الآية والعلم عند الله.

ثم قال ربنا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٣ - ٨٥]، لم يرد ذكر النفس هنا، فقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣]، لم يذكر الفاعل للفعل (بلغ)، لكن العلماء متفقون على النفس، وهذا فصل في لغة العرب أنها تأتي بالكلم ولو لم يكن له ذكر من قبل، قال حاتم طي: أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالنا نزر إلى أن قال وهو موضع الشاهد: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر والنفس لم يكن لها كلام ولا قول في قصيدة حاتم، وإنما ردهم إلى شيء غير مذكور، وهناك شواهد أخر، وقد عقد له ابن خالويه رحمة الله تعالى عليه في كتابة: (فقه اللغة وسر العربية) فصلاً كاملاً.

والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣]، أنه يعود على الروح بإجماع العلماء.

قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ} [الواقعة:٨٣ - ٨٤] أي: من حول الميت {حِينَئِذٍ} [الواقعة:٨٤]، أي: حين تبلغ الروح الحلقوم {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:٨٤]، أي: إلى الميت، {وَنَحْنُ} [الواقعة:٨٥] هذا قرب الله بملائكته {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:٨٥] أي إلى الميت {وَلَكِنْ} [الواقعة:٨٥] حرف استدراك {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٥] أي: من حول الميت لا يبصر الملائكة وهي تنزع الروح من الميت، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:٨٥ - ٨٦] أي: لا تدانون ولا تملكون ولا تستعبدون كما تزعمون، ولا لأحد سلطان عليكم كما تقولون {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:٨٦]، هذا هو قول الجمهور، وقول آخر: وهو أنكم غير مجازين أياً كان السياق، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:٨٦ - ٨٧] أي: الروح {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:٨٧] والروح إذا اتصلت بالبدن يقال لها: نفس، قال الله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:٧]، وإذا خرجت من البدن يقال لها: روح، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون: (إن الروح إذا فرجت تبعها البصر)، فقال ربنا هنا: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:٨٦ - ٨٧]، ولا يستطيع أحد أن يعيد إلى ميت حياة، قال الله جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦١ - ٦٢].