للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القلوب محل حب الله وتعظيمه وإجلاله]

أولى القبسات هي أن القلوب هي الأوعية التي يحب فيها الله ويعظم ويجل، ومن خلال عظيم محبة الله جل وعلا في قلب أي عبد ينجم العمل والقرب من الطاعات والازدلاف إلى الله بالحسنات، وينجم عن ذلك البعد عن المعاصي والفرار من الذنوب والإحجام عن الموبقات.

وقد جعل الله قلب نبينا صلى الله عليه وسلم له تبارك وتعالى، فولد عليه الصلاة والسلام دون أن تكتحل عيناه برؤية أبيه، فنشأ يتيم الأب منذ ولادته، فتعلق بقلب أمه وحنانها وشفقتها ورقتها عليه، فما أن أتم ست سنوات حتى حجبت عنه رحمة الأم فماتت أمه.

فأخذ -صلوات الله وسلامه عليه- يوم ذاك يدب نحو جده ويتشبث به، فما هي إلا سنتان ويموت ذلك الجد، فيصبح ذلك النبي المنتظر الذي سيختم الله به النبوات ويتم به الرسالات لا أب ولا أم ولا جد له؛ لأن الله جل وعلا وحده تكفل به كما قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦ - ٨].

ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه جعل الله له نصيرين: عمه أبا طالب وزوجته خديجة، فلما تفاقمت عليه مصائب أعدائه ورموه عن قوس واحدة توفي العم وتوفيت الزوجة في شهر واحد؛ ليطمئن صلى الله عليه وسلم بأن الله وحده هو الذي سينجيه ويظهره ويعلي شأنه صلوات الله وسلامه عليه.

ثم يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وكان قد مات ولداه القاسم وعبد الله قبل أن ينبأ، فما بقي له إلا البنات، فتعلق بهن صلوات الله وسلامه عليه كأي أب، ثم ما إن تعلق بـ عائشة وأحبها حتى رميت في عرضها رضي الله عنها وأرضاها.

ثم بشر صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر، فقال: (والله لا أدري بأيهما أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!) وما هي إلا شهور معدودات ويموت جعفر ويبقى صلى الله عليه وسلم من غير حبيبه جعفر.

ثم آنس الله وحشته فيرزق صلى الله عليه وسلم بابنه إبراهيم، فما إن يظهر الود في قلبه عليه الصلاة والسلام ويتردد إلى عوالي المدينة كي يرى إبراهيم كل يوم فيقبله ويرفعه ويشمه ثمانية عشر شهراً فقط حتى يموت إبراهيم، لئلا يبقى في قلبه صلى الله عليه وسلم أحد إلا الله.

ولهذا ما قضى صلى الله عليه وسلم عمره إلا فيما قضاه الأنبياء من قبله، ألا وهو التعريف بربهم جل وعلا، وإن أعظم نصرة له -صلوات الله وسلامه عليه- أن يؤخذ عنه الدين وأن يؤخذ عنه في المقام الأول عظيم توحيده لربه تبارك وتعالى، فإن القلوب لا يستحق أن يتربع على عرشها أحد تحبه وتوالي وتبغض فيه إلا الرب تبارك وتعالى.

ولهذا كانت أعظم آيات القرآن تترى في أمكنة متعددة وأزمنة متباينة كلها تبين هذا المنهج العظيم الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله جل وعلا من أجله الكتب.

جاءه العاص بن وائل وهو بمكة صلوات الله وسلامه عليه، وفي يد العاص عظام قد أرمت، فنفخ فيها وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد موتها؟! فأنزل الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:٧٧ - ٨٠].

والخضرة لا تكون إلا من ماء، والماء لا يتفق مع النار، فهما خصمان، ومع ذلك يجعل الله جل وعلا من الشجر الأخضر ناراً، ولا يقدر على هذا إلا الله.

والمقصود أن قلبه صلى الله عليه وسلم ملئ محبة وتوحيداً وإجلالاً لله، فنشأت دعوته كلها على هذا المبدأ العظيم الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب، وهذا أعظم ما يمكن أن ينصر به العبد نبيه صلى الله عليه وسلم.