[يوسف وإخوته]
وهذه هي ثاني الوقفات، فكما أنبأنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، نتحدث عن نبي كريم كان قبل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
قدر الله جل وعلا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون له ابنان إسماعيل وإسحاق، ثم كان من إسحاق يعقوب, ثم كان من يعقوب اثني عشر ولداً، وكان يوسف أحد هؤلاء الاثني عشر ابناً, وكان أحبهم إلى أبيه، وأقربهم منه.
وهذه الأمور تمضي بقدر الله, والله يخلق ما يشاء ويختار.
فكان ليوسف مكانة خاصة عند أبيه هو وأخوه بنيامين، فشعر الإخوة بأن ليوسف مكانة تعلو على مكانتهم, فكان في قلوبهم من الضغينة شيئاً يرتع وينمو مع الأيام, حتى كان ذات يوم فرأى يوسف في منامه -وهو ابن سبع سنين على الأظهر- أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدان له, ففر فزعاً إلى أبيه يسابق الخطوات حتى دخل عليه، فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:٤].
وكان يعقوب من العلم بمكان, فعلم أن ابنه هذا سيصبح له منزلة عالية ومكاناً سامياً، فخاف عليه وقال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:٥] وأخذ يلاطفه في القول حتى يكتم تلك الرؤيا, جاعلاً خاتمة المقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:٥].
على الجانب الآخر كان الأبناء يشعرون بقرب يوسف من أبيهم فتآمروا وتناجوا، ثم قدموا على أبيهم بعد أن مكروا مكرهم وقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف:١٢].
لم ينكر عليهم أبوهم أنهم يرتعون ويلعبون, فهذه سنة كل غلام, لكنه خاف على يوسف، قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:١٣].
فما زالوا يصرون عليه ويقدمون له أطايب القول حتى وافق, فأرسله معهم, وخرجوا به إلى البرية وقد أجمعوا أمرهم من قبل, فألقوه في غيابة مهجورة بعد أن قرروا أول الأمر قتله، لكن عاطفة الأخوة غلبت عليهم، قال الله على ألسنتهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:٩].
فألقوه في غيابة جب مهجور, أي: في بئر مهجورة قل من يأتيها، ثم عمدوا قبل أن يلقوه إلى قميصه فخلعوا القميص عنه, ومروا في طريقهم على شاة فذبحوها, ولطخوا ذلك القميص بدم تلك الشاة وقدموا على أبيهم ليلاً, والعرب تقول: الليل أخفى للويل.
وتظاهروا بالبكاء، وليس كل مدع صادق، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:١٦].
وأخبروه الخبر وأن يوسف أكله الذئب، وأعطوه القميص ليكون لهم شاهداً، أخذ يعقوب القميص، فإذا القميص على حاله, قال لهم: أي ذئب عاقل هذا، أكل ابني وترك قميصه، فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨].
فهو أب طاعن في السن وهؤلاء عشرة من البنين فلا يستطيع أن يتغلب عليهم, والرجل العاقل قد يحاط به أحياناً فلا يقدر أن يتصرف, فمن الحكمة أن يتوارى أحياناً, فالكلمة التي لا تستطيع أن تقولها أخرها, ولو إلى حين, والعاقل لا يطير قبل أن يريش, فسكت وصبر وكظم غيظه مستعيناً بالله الواحد الأحد.
هذا ما أراده إخوة يوسف لكن ما أراده الله شيء آخر، أنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد.
مرت سيارة -قافلة عابرة- على تلك البئر، فأرسلوا واردهم, فتعلق يوسف بالدلو الذي أنزله واردهم، وخرج من البئر، ولم يكونوا من العلم ولا من الفطنة بشيء, ما لبثوا أن زهدوا فيه وخرجوا به إلى سوق النخاسين ليبيعوه، قال الله تعالى عنهم: {وَشَرَوْهُ} [يوسف:٢٠] أي: باعوه, وهذا من الأضداد في اللغة, {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:٢٠].
على النقيض منهم اشتراه عزيز مصر وكان رجلاً فطناً فتفرس فيه معالم النجابة، واشتراه وأدخله قصره، وقال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:٢١].
قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].
أراد له إخوته أن يعيش في بئر مهجورة فأخرجه الله إلى ردهات القصور فمكث فيها ما شاء الله.