للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخاطرة الثانية إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم]

الخاطرة الثانية: إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة.

معشر الأحبة! النبوة ليست أمراً ينال بالجهد ولا يكتسب بالسعي ولكن النبوة فضل من الله وعطاء.

والله جل جلاله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:١٠٥]، ولقد جرت سنة الله في خلقه أنه بعث إليهم رسلاً هم الواسطة بين الله وبين عباده أي: أنهم يبلغون عن الله رسالاته وينصحون له في برياته، هذا من نوح حتى ختم الله تلك الرسالات بمبعث ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فنبينا هذا الذي ننتسب إليه ونتشرف أجمعين بأننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه له عند الله الدرجة الرفيعة، والمنزلة العالية، والمقام الأسمى، وإننا لن نرزق حبه صلوات الله وسلامه عليه حتى نعلم الكثير عنه؛ لأن من يجهل سيرته من باب أولى ألا تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كامنة في قلبه، وإن عدمت المحبة لا بد أن يعدم الاتباع؛ لأن الاتباع أصلاً مبني على المحبة والمحبة مبنية على العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم.

وهذه الخاطرة سنخصصها لما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى نكون على يقين إلى أي نبي ننتسب؟ وبأي نبي نقتدي؟ وإلى أي ملة ننتمي؟ أكرم الله رسولنا صلى الله عليه وسلم بثلاثة مكارم: أكرمه قبل ولادته، وأكرمه حال حياته، وسيكرمه يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.

فمن إكرام الله لنبينا قبل ولادته: أن الله ما بعث نبياً إلا وأخذ عليه العهد والميثاق أن يتبع رسولنا صلى الله عليه وسلم إذا بعث، قال تعالى في آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:٨١].

وأكرمه بأن نبي الله إبراهيم لما وضع رحله وذريته في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم استقبل القبلة ودعا الله قائلاً: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:١٢٩]، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين وضعتني رأت أن نوراً ساطعاً يخرج منها أضاءت له قصور الشام)، وأما قوله: وبشارة عيسى فقد ذكرها الله في القرآن نصاً: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦].

فهذا بعض مما أكرم الله به رسولنا قبل ولادته يوم مبعثه، أما ما أكرم الله به رسولنا في حال حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك كثير لا يحصى، ولكننا سنجمل بعضه؛ لأنه مما نحن ملزمون به في هذه المحاضرة، فمما أكرم الله به رسوله: أن الماء نبع من بين أصبعيه، وأن الحصى سبح بين يديه، وأن الجذع حن إليه فإنه لما صنع له المنبر صلوات الله وسلامه عليه وارتقى عليه أول الأمر إذا بالصحابة يسمعون لذلك الجذع الذي كان رسولنا يأوي إليه ويخطب عنده بالسابق يسمعون له أنيناً وحنيناً على فراق رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وأكرمه ربه جل وعلا برحلة الإسراء والمعراج فكانت تلك الرحلة الخالدة التي أسرى الله بها بنبينا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فصلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً رغم أنه آخرهم مبعثاً، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، ثم جاوز سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، قال شوقي: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء؟ بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلاء وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء أكرم الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بأن الصلوات الخمس أعظم فرائض دينه بعد الشهادتين فرضت عليه في السموات العلى وهذه إشارة عظيمة إلى أهمية الصلاة في دين الإسلام ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يطعن في المنبر فيتأخر إلى الصف ويقدم عبد الرحمن بن عوف ويقول لمن حوله: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

ومما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أن الله أقسم في القرآن بحياته قال العلماء: ولا يعرف أن الله أقسم بحياة أحد من خلقه إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى في سورة الحجر: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:٧٢]، وأقسم الله بالأرض التي يطأ عليها، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:١ - ٤].

بل بالغ ربه في إكرامه حتى أقسم له أي: من أجله صلوات الله وسلامه عليه فقال ربنا: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١ - ٢]، فأقسم بالضحى وأقسم بالليل حال تغطيته للكون، ثم بين جواب القسم فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣]، فالله يقسم له أنه ما وعده وما قلاه وما هجره وما نأى عنه تبارك وتعالى، بل هو له صلى الله عليه وسلم مؤيداً وظهيراً ونصيراً صلوات الله وسلامه عليه.

وهذا كثير مطرد وسنقف عندما أخبرنا به، أما إكرام الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الآخرة فإنه عليه الصلاة والسلام أول من ينشق عنه القبر، وهو أول من يجيز الصراط هو وأمته، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يطرق باب الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يدخلها، كما أن ربه يعطيه يوم القيامة المقام المحمود الذي يغبطه عليه الخلائق أجمعون، كما أن الله يعطيه الوسيلة كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي).

فهذا دليل على فضل إجابة المؤذن وعلى فضل سؤال الله الوسيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودليل وبرهان واضح ظاهر لكل أحد على مقدار ما سيكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة.

وهنا ننيخ المطايا لنقول لكم يا معشر الشباب خاصة: هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم فعلام أحدنا اليوم يتعبد بفعل المنحرفين الذين تتصدر صورهم وعناوين حياتهم أعمدة الصحف، وأغلفة المجلات، وطيات المنشورات لا يأبه الله جل وعلا بهم يوم القيامة، وليس لهم عند الله منزلة ولا مكانة، فعلى ما نعلق أفئدتنا؟ ونحيل أبصارنا إلى أمثال هؤلاء ونعرض عن هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ ونعرض عن هدي هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

هذا النبي الذي كان يا أخي! رحيماً شفيقاً بي وبك، رحيماً بأبي وأبيك، رحيماً بأمي وأمك، حتى إنه صلى الله عليه وسلم يضحي في يوم العيد بكبشين أملحين أقرنين فيسمي الله ويكبر على الأول ويقول: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد، ويسمي ويكبر على الآخر ويقول: اللهم وهذا عن من لم يضحي من أمة محمد)، ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يرانا، ويقول صلى الله عليه وسلم -ولنا الشرف أنها تكتحل أعيننا برؤيته- يقول لأصحابه كما في صحيح ابن حبان: (وددت لو أني رأيت إخواني، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطكم على الحوض).

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا وإياكم جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.