[تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال)]
ثم قال الله جل وعلا ذاكراً الصنف الثالث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:٤١ - ٤٥].
أما قول ربنا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:٤٤] فإن العرب -كما ذكر الطبري في تفسيره- في جريان كلامها تأتي في النفي بلفظ (كريم)، فتقول: هذه الدار لا واسعة ولا كريمة، ويقولون: هذا اللحم لا سمين ولا كريم، فكلما نفوا صفة معينة متعلقة بالموصوف أردفوها بقولهم: كريم، فجاء القرآن على سَنَنِهم ونسقهم في الكلام، قال الله جل وعلا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:٤٤]، ثم قال ربنا: {إِنَّهُمْ} أي: أصحاب الشمال {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} [الواقعة:٤٥ - ٤٧]، وطالب العلم إذا تأمل هذه الآيات مقارنة بالصنفين الأولين يجد فرقاً واضحاً: وهو أن الله جل وعلا لم يذكر أسباب تكريم السابقين، ولم يذكر أسباب تقريب أهل اليمين، ولكنه لما ذكر أصحاب الشمال ذكر أسباب تعذيبهم! أي: أنه لما ذكر أصحاب اليمين ذكر النُعمى عليهم، ولم يذكر لأي سبب أنعم عليهم، ولما ذكر قبلهم السابقين ذكر النُعمى والفضل عليهم، ولم يذكر أسباب حصولهم على ذلك النعيم، لكنه عندما تكلم -جل شأنه وتبارك اسمه- عن أصحاب الشمال عدد الأسباب فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:٤٥ - ٤٧].
والجواب عن هذا أن يقال: لقد جرت سنة القرآن أن يذكر الله أسباب العقاب ولا يذكر أسباب الثواب؛ لأن الثواب فضل لا يمكن أن يتوهم القدح في المتفضل به، وأما العقاب فمقام عدل لابد أن تُوْضَحَ فيه الأسباب حتى لا يُظن بالحاكم والقائم على الأمر ظلم.
وأظن أن المعنى قد تحرر بهذا.
قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا} [الواقعة:٤٥] أي: أصحاب الشمال ? {قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:٤٥] وليس هذا سبب رئيس في تعذيبهم؛ لأن الترف لوحده قد لا يصل إلى حد الكفر، لكن الله قال بعدها: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٤٦] وهو الشرك، ثم قال الله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:٤٧]، وما أجمله الله هنا بيّنه الله في مقام أوسع في سورة الإسراء، فإن أهل الإشراك كانوا يستبعدون البعث والنشور ويجعلونه أمراً لا يمكن أن يقع بحال، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٧ - ٧٩]، لكن هذا كله يدور حول التراب، وقد أخبر الله جل وعلا عنهم في سورة الإسراء: أنهم استبعدوا البعث بعد أن يكونوا عظاماً أو تراباً، ومعلوم أن بني آدم مخلوقون من تراب، فليس لهم شأن أن يستبعدوا أن الله جل وعلا يعيدهم من التراب الذي خلقهم منه، لكن الله جل وعلا ليُظهر لهم كمال قدرته، وجليل عظمته، ومنتهى حكمته قال لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٥٠ - ٥٢]، فلو كنتم حجارة أو حديداً أو أي خلق يمكن أن يخطر لكم على بال لأحياكم الله جل وعلا منه، فكيف وأنتم تعودون إلى تراب، أي إلى عين ما خلقكم الله جل وعلا منه؟ والأمر كله على الله جل وعلا هيّن.
قال الله جل وعلا: {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:٤٨] قال الله مجيباً لهم: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:٤٩ - ٥٢]، وهذه الشجرة في النار، ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النار لا يمكن أن ينبت فيها شجر؛ لأن الأصل أن النار تحرق الشجر، لكن الله جل وعلا قال في الصافات: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ} [الصافات:٦٤] أي: الزقوم {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٤]، وأخبر الله جل وعلا أنه أراد بذلك اختبار العباد في مدى يقينهم وإيمانهم بقدرة الله، أو عدم إيمانهم ويقينهم بقدرة ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣] فهي شجرة تخرج في أصل الجحيم، فمن علم عظيم جلال الله وكمال قدرته يعلم أن الله قادر على أن يمنع النار من أن تصل إلى الشجرة، والتحريم -أيها المبارك- في القرآن على نوعين: تحريم شرع، وتحريم منع.
فالثواب والعقاب يتعلق بتحريم الشرع كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:٣]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١١٩] هذا الذي يتدخل فيه الثواب والعقاب.
أما تحريم المنع فلا ثواب ولا عقاب عليه؛ لأنه أمر كوني قدري ليس أمراً شرعياً، قال الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢] أي: منعنا شفتيه من أن تقبل أثداء النساء، فالمعنى هنا: تحريم منع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: يا نبي الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) أي: منع الأرض من أن تأكل أجساد الأنبياء، وليس معنى حرم هنا بمعنى: شَرَّع؛ لأن الأرض غير مكلفة بالاتفاق، لكن المقصود: أن الله جل وعلا منعها أن تصل إلى أجساد الأنبياء، ومنه أيضاً: أن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل من ابن آدم مواضع السجود، رغم أنها تتسلط على بدنه كله، لكن النار تتسلط على بدنه كله بقدر الله، وتمتنع عن أعضاء السجود بقدر الله؛ لأن النار كلها مخلوقة من مخلوقات الله لا يمكن لها ولا لغيرها من المخلوقات أن يخرج عن مشيئته وقدرته جل وعلا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
ثم قال الله جل وعلا: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:٥٢ - ٥٥].
أما قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:٥٤] هذا إجمال فصله قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:٥٥].
والهيم: تطلق ويراد بها أحد أمرين: إما أن يكون المراد: الأرض الرملية التي مهما سُقيت لا يظهر عليها أثر، وقال بهذا القول: ابن كيسان والأخفش من العلماء.
وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن المعنى: أن الهُيَام داء يصيب الإبل فتعطش، فإذا عطشت واشتد عِطَاشُها لجأت إلى الماء لترتوي، فمهما سُقيت لتشرب فلا يمكن لها أن ترتوي، فتمكث على هذا الحال حتى تَسْقَم سُقماً شديداً أو تهلك.
هذا الذي عليه أكثر المفسرين.
والهيام: داء معروف في الإبل كما بينا، وقد كانت العرب تنقله حتى إلى الرجال، وينقلون عن قيس بن الملوح الذي فتن بـ ليلى أنه قال: وقد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا إلى أن قال وهو موضع الشاهد: يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائيا فقول قيس: يقولون به داء الهيام أصابه هو موضع الشاهد، وقد نقلته العرب من إصابة الإبل إلى إصابة أفراد الرجال.
قال الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا} [الواقعة:٥٥ - ٥٦] الذي ذكرناه وبيناه وحررناه {نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:٥٦]، والنزل: أول ما يستقبل به الضيف، قال بعض العلماء رحمة الله تعالى عليهم من أهل هذا الشأن: إذا كان هذا هو نزلهم، فماذا سيكون حالهم عياذاً بالله بعد أن يستقر بهم القرار في النار؟ لا ريب أنه أنكى وأشد وأعظم، عافانا الله وإياكم من ذلك كله.