واعلم أن المرء أحوج ما يكون إلى ثلاثة أمور: معرفة الهدى والحق والرشاد، ثم العزيمة والتوفيق لأدائه، ثم الثبات عليه، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وفق الإنسان في الحياتين، وسعد في الدارين.
وقد يعرف الإنسان مواطن الحق وأماكن الرشاد، ولكنه تقصر به الهمة عن تحقيقها، وقد يحققها ولكنه لايحالفه التوفيق بأن يبقى ثابتاً عليها، فقد كان ميمون بن قيس الملقب بـ الأعشى شاعراً جاهلياً مرموقاً، حتى كان يعرف بصناجة العرب؛ لأنه كان بشعره يرفع الخامل ويضع النبيل، فلما شاع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب قدم الأعشى من ديار قومه يريد المدينة ليؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحق تبين له أمره، فتعرض له القرشيون في الطريق، فقالوا له: ما وراءك؟ فأخبرهم بغايته، وأنه أعد قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم لبعض: لئن آمن الأعشى ومدح النبي عليه الصلاة والسلام فإن أمر محمد سيشيع، وليدخلن الدين كل بيت، فردُّوه، فأخذوا يغرونه بالمال حتى اتفقوا معه على أن يعود عامه ذاك، وقد أعطوه من النوق ما أعطوه، فرجع -والعياذ بالله- فوقع من فوق ناقته وهو في طريقه، فدق عنقه فمات على كفره وضلاله، أعاذنا الله وإياكم.
وكان قد أعد شعراً، وآمن في قلبه، ولكن حرم التوفيق لقضاء الله جل وعلا وقدره، وكان مما قاله: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا