[طيب مماته صلى الله عليه وسلم]
وكما طابت حياته وطاب خَلْقه وطاب خُلُقه طاب مماته صلى الله عليه وسلم، فكان آخر عهده بالدنيا أن استاك فتطيب فاه قبل أن يلقى ربه جل وعلا.
وبقدر الله يدخل عبد الرحمن بن أبي بكر إلى بيت عائشة، وبقدر الله ينظر صلى الله عليه وسلم إلى السواك ولا يستطيع -وهو نبي الأمة ورسول الأمة وسيد الفصحاء- أن يقول: أعطوني السواك.
ثم تأخذ عائشة السواك من أخيها فتقضمه وتطيبه فيتطيب به عليه الصلاة والسلام.
وقد جرى عليه ما جرى على الأنبياء من قبله، وجميع الأنبياء تجري عليهم خمسة أحكام: الأول: أنهم يرعون الغنم.
الثاني: أنهم يخيرون عند الموت.
الثالث: أنهم يدفنون في الموضع الذي ماتوا فيه.
الرابع: أن الأرض لا تأكل أجسادهم.
الخامس: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
فجرى عليه في تلك اللحظات الثالثة من هذه الأمور، وهي أن الملك أخذ يخيره بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وبين لقاء الله ثم الجنة، وقلب كقلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتاق إلى شيء أعظم من شوقه إلى لقاء الله، فلما خيره الملك سمعته عائشة وهو يقول: ({مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] اللهم اغفر لي، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً، ومالت يده وفاضت روحه صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى.
وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء بعد مغرب يوم الثلاثاء، ومع ذلك لم يزدد صلى الله عليه وسلم بعد موته إلا طيباً.
لقد نظر إلى أصحابه قبيل وفاته في يوم مرضه فتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وهذا ما عناه أبو بكر بقوله: طبت حياً وميتاً يا رسول الله.
ثم غسلوه صلى الله عليه وسلم، ومراعاة لحرمته عليه الصلاة والسلام لم ينزعوا عنه ثيابه، ولم تكشف له عورة، وإنما باشروا الغسل من فوق الثياب، فعليه الصلاة والسلام.
ثم لعظيم حرمته عند الله ولطيب مماته عليه الصلاة والسلام هدى الله أولئك الأخيار إلى ألا يقدموا إماماً يصلي بهم على نبيهم، فلكي تصل صلاة كل أحد إليه، ولكي يشعر كل فرد بأنه باشر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلوا عليه أرسالاً، حتى لا يقول أحدهم: صليت خلف أبي بكر على رسول الله، وإنما يقول: صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
ثم يكرمه الله بأن يدفن - وهذا من خصائص الأنبياء - في الموضع الذي مات فيه، فدفن صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من الحجرة مكان فراشه صلوات الله وسلامه عليه، وفي تلك الحجرة كان يناجي ربه، وفي تلك الحجرة كان يقوم الليل، وفي تلك الحجرة كان يتنزل عليه الوحي، وفي تلك الحجرة كان يجيب السائلين، وفي تلك الحجرة كان يطعم الأضياف، وفي تلك الحجرة أسلم الروح، وفي تلك الحجرة دفن، ومن تلك الحجرة يبعث صلوات الله وسلامه عليه.
وبقدر الله ترى عائشة قبل مماته أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتها، فتذهب إلى أبيها -وهو من المعبرين- فتخبره بالرؤيا، وكان الصديق أعلم الناس بنبينا صلى الله عليه وسلم وأكملهم أدباً، فاستحيا أن يعبرها حتى لا يخبرها بقرب موت نبينا صلى الله عليه وسلم مع أن الموت حق، فلما وقع ما وقع ومات رسول الله ودفن في الحجرة جاء الصديق رضي الله عنه إلى ابنته وقال: يا بنية! هذا أول أقماركِ.
والاثنان الآخران كانا الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي يوم موت عمر رضي الله عنه وأرضاه كانت عائشة رضي الله عنها أحق الناس بالحجرة؛ لأنها حجرتها، وكان الناس يعلمون أنه لم يبق إلا موضع قبر واحد، فلما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يهمه إلا أمران، فقال لـ ابن عباس: اذهب فانظر من طعنني.
فذهب ابن عباس أو ابنه عبد الله فعرف أن الطاعن هو أبو لؤلؤة المجوسي، فقال: يا أمير المؤمنين! أبشر بالذي يسرك، الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي.
فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على رجل سجد لله سجدة.
فالمؤمن الذي يخشى الله حقاً لا يحب أن يأثم أحد بسببه، ولو كان ذلك الآثم قد فعل ذلك عدواناً وظلماً، كما فعل عثمان رضي الله عنه لما منع الناس أن يحموه حتى لا يراق دم بسببه.
فعمر رضي الله عنه استبشر وفرح بأن من طعنه لم يكن مؤمناً، ثم قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة فقل لها: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فذهب عبد الله واستأذن على عائشة فقالت وهي تبكي: والله لقد كنت أدخره لنفسي - أي المكان - ولأوثرنه اليوم على نفسي.
فذهب عبد الله فدخل على أبيه قائلاً: يا أبتاه! أبشر بالذي يسرك.
فخاف عمر أن تكون عائشة قد فعلت ذلك حياءً لأنه حي، فأوصى ابنه قائلاً: يا بني، إذا أنا مت وغسلتني وكفنتني فاحملني وقل: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ ولا تقل: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ فإني يوم ذاك لست للناس بأمير.
فإذا أرادت عائشة أن تعتذر فإنها ستعتذر ليكون فعلها عن طيب نفس منها.
فحمل بعد غسله وتكفينه على أعناق الرجال، ثم نودي أن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فأذنت ودفن.
يقول بعض الرواة -والعلم عند الله-: إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها بعد أن دفن عمر في حجرتها بنت جداراً بينها وبين القبور حياءً من عمر وهو ميت، وقالت: لم يكن إلا زوجي ووالدي، أما الآن فزوجي ووالدي ورجل آخر.
تقصد عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فإن صحت هذه الرواية -وليس ببعيد أن تصح- فإن المرأة لا ترزق شيئاً أعظم من أن ترزق الحياء مع غيرها من الرجال.
قال الله جل وعلا عن إحدى ابنتي العبد الصالح: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥].
والمقصود من هذا الأخبار كلها -رغم تشعب الحديث- بيان كيف طاب مماته صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الحجرة يخرج صلى الله عليه وسلم، وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فيجد أخاه موسى آخذاً بقوائم العرش، وانظر لعظيم تمسكه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فالله يقول له: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] فيطبقها عملياً، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟).
فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وبدين الله وبالأخبار الشرعية كلها، ويقول: (لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) صلوات الله وسلامه عليه.