هذا الرجل الذي مات بهذا القهر، ترك للناس -كما قلت- كتابه (الكتاب)، ولا يعرف بعد كتاب الله جل وعلا كتاب شرحه العلماء أو حاموا حوله أو طافوا ببابه مثل (كتاب سيبويه) وقد ترجم في عصرنا هذا إلى أكثر لغات العالم، وجامعة هارفوريد الأمريكية -وهي أرقى جامعات العالم أكاديمياً- تحتفظ بنسخ منه وتضع شهادات أكاديمية وترقيات علمية لمن يستطيع أن يبحث في كتاب سيبويه، بل إن نحوياً أمريكياً شهيراً اسمه (تشو مسكي) ظهر في هذا العصر كانت أول حياته للسياسة ثم تفرغ للنحو، وأخرج لجامعات العالم ما يسمى عالمياً (بالنحو التحويلي) ونظرية (تشو مسكي) في النحو التحويلي سارت بها الركبان في هذا العصر وهو حي يرزق الآن في جامعات العالم، ما قاله (تشو مسكي) في النحو التحويلي، وجد له أصل في كتاب سيبويه، فقد نبه إليه سيبويه من قبل ألف سنة كما بينا.
كما أنه رحمه الله تعالى ذكر للناس طريقة جميلة في التأدب مع المشايخ والعلماء فقد كان شيخه الأول: الخليل بن أحمد، فكان حتى يميز الخليل، شيخه الأكبر والأجل والأول عن غيره، يقول رحمه الله في الكتاب: وزعم عيسى بن عمر: وحدثني أبو الخطاب، وأخبرني يونس، فيذكر أسماء المشايخ، فإذا قال:(حدثني) وذكر الخبر دون أن يذكر الفاعل، أو قال (سمعته يقول) دون أن يصرح باسمه، فإنما يقصد في المقام الأول شيخه الخليل بن أحمد فكان يرى أن شيخه هذا أجل من أن يذكر وأكبر من أن يسطر اسمه إلا في بعض مواطن من الكتاب لا تخفى لمن اطلع عليها.
ثم إنه ضرب مثلاً في قوة النفوذ العلمي للكتاب، فالكتاب الحق هو الذي إذا خرج إلى الناس تقنع الناس مادته العلمية لا ما فيه من تقريض العلماء، وثناء الفضلاء، فإن الله جل وعلا لما أنزل كتابه قال في أول صفحاته بعد الفاتحة:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ}[البقرة:١ - ٢]، أي: دونكم الكتاب فاقرءوه، والله جل وعلا صادق ولا يقاس به أحد من خلقه، لكن هذا منهج في أن الإنسان إذا أراد أن يؤلف فليعتن بمادة الكتاب ولا يعنى بتقديم غيره له، حتى يكون كتابه أوقع في النفوس، وأملأ لليد، ويحتف به الناس.
ف سيبويه لم يجعل لكتابه خطبة ولا مقدمة ولا قافية، وقد يقال: إنه مات قبل أن يخرج كتابه، لكن أياً كان الأمر فإن كتابه فريد عصره.
والشاهد: أن ما حصل له هو دليل من أدلة ما يسمى بقهر الرجال.
على أنه ينبغي أن يعلم كذلك أن ميدان التنافس الدنيوي يدفع الإنسان لتصرفات لا يحب أن يعامل بها، فيريد أن يصل قبل أن يكتب له الوصول.
وأعلم يا أُخيّ! إن كنت طالب علم أو عالماً أو مربياً، أن ما كتبه الله لك لن يمنعك منه أحد، وما لم يكتبه الله جل وعلا لك فلن يصل إليك أبداً ولو اجتمع أهل الأرض على أن يوصلوه إليك، فالحق الذي لا مريه فيه أن تتأدب مع الأئمة الأعلام والأكابر الماضين إذا ألفت كتيباً.
ومن قرأ مقدمة الشيخ الوالد محمد المختار رحمه الله في (شرح سنن النسائي الصغرى) يتعجب، فقد ذكر أنه دفعه إلى التأليف: أن الناس لم يحتفوا بسنن النسائي، وإلا فهو يرى نفسه أقل من أن يكتب أو يؤلف مؤلفاً، وذكر أبياتاً جميلة في هذا تنسب لأحد المالكية: متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا وإن ترفع الوضعاء يوماً على الوضعاء من إحدى الرزايا ومن يثن الأصاغر من مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا