[أمور يجب على طالب العلم أن ينأى بنفسه عنها]
ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما يمكن أن يكون سمتاً، وهو مندرج في الجانب العملي، ثمة أمور يجب على طالب العلم أن ينأى بنفسه عنها، وأن يجتنبها، لأنها تفقده مروءته، أو تفقده مصداقيته، أو تدفعه لئن يقول ما لا يعلم.
وهذه الثلاث المحاذير مما يجب أن ينأى المرء عنه.
قد يكون الشيء مباحاً، لكنه لا يليق بمن سلك منهج العلماء، وطريق القادة، وسبيل الربانيين من الكبار، وكنموذج من واقع الناس، كالأناشيد مثلاً، أو ما يعرف بالأناشيد الإسلامية، وإن كان في وصفها بالإسلامية محل نظر، لكنها تكون مباحة عند أكثر العلماء إن لم تكن مصحوبة بآلة عزف، فهذه قد يقبل أن يستمعها شاب أو طالب في مركز، أو رجل في سفر، قد لا يكون هناك حرج كبير في ذلك، لكن لا يليق بطالب علم أن يعزف على تلك الأناشيد، ينتقل من كتف إلى آخر، يتغنى بها أو يرددها، فهذا يقدح غالباً في مروئته، وينأى به عن سمت العلماء وهديهم، ذلك أن للعلماء سمتاً وهدياً خاصة في المحافل والأماكن، والإنسان يتأثر بما يسمع ومما يقول.
مما ينبغي أن ينأى طالب العلم بنفسه عنه: أن يتحدث في كل شيء، وأن يرى أنه أهل لئن يتكلم في كل قضية، وإنما العاقل وطالب العلم في المقام الأول، وطالبة العلم في المقام الأول كذلك، فلا يتحدث إلا في الشيء الذي ملأ يده منه، وأحكمه وأجاده.
والإنسان إذا كان أكمله الله بالإيمان والمعرفة والسلوك الحسن لا يتحدث بكل قضية، ولا يخطب في كل نادٍ، ولا يهيم في كل واد، وإنما إذا تحدث رأى الناس على حديثه سمت الصدق، ونجم عن حديثه النفع، وكان تحريره للقول تحرير رجل عالم بما يقول، ولهذا لا يمكن أن يتحدث الإنسان في كل قضية، ويخوض في كل مسألة رغبة في أن يتصدر بمجلس، أو أن يشار إليه بالبنان.
كما ينبغي أن ينأى طالب العلم بنفسه عن مزاحمة الناس في أمر دنياهم، قال الشافعي رحمه الله: فإن تجتنبها تجتنبها بعزة وإن تجتذبها نازعتك كلابها أي: الدنيا.
وقال الحسن البصري رحمه الله: اترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك.
وليس المقصود أن الإنسان يحيى فقيراً على السؤال والمسكنة، لكن الإنسان إذا كان في دائرة ما حكومية، أو غيرها فلا يأخذ غير حقه، أو يشارك في مسألة الأسهم كما في عصرنا، أو يدخل بما يسمى بالجمعيات، أو يأتي إذا كان معلماً في الجدول الدراسي يطالب بأكثر من حقه، أو ما أشبه ذلك مما يشعر الناس فيه أنه حرص على الراحة، أو بحث عن مطالب دنيوية محضة، أو منافسة للناس، وصراع معهم في أمور دنيوية، سواء كانوا زملاء في وظيفة، أو جيران في الحي، أو ما إلى ذلك، هذا كله يقدح في شخصيته، ويقلل في قبول الناس منه، وهو يحمل هماً عظيماً وعلماً جماً، ولا بد أن يتخذ كل الطرائق التي تعينه على تبليغ دعوة الله جل وعلا إلى الناس.
فلا يجب أن يجعل هناك حاجزاً وحاجباً بينه وبين الناس في أنه يخوض في دنياهم، وينافسهم فيها، هذا ينأى به عن طريق الله المستقيم على الوجه الأكمل، وأنا لا أتحدث عن الحلال والحرام، إنما أتحدث عن معالي الأمور كيف تنال.
وقد قيل: ما انتصف كريم قط، فكرام الناس لا يأخذون حقهم، إنما يشقون؛ لأنهم يتحملون أثقالاً عديدة لا يتحملها غيرهم، وهذا من أسباب صدارتهم في الناس.