[ترك الظلم]
ثالث ما ينبغي أن يتداركه الظلم.
والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما، وقد بعث صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذ بن جبل إلى اليمن وهم يومئذ أهل كفر، قال له: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وكم يقع الظلم ما بين صاحب العمل والأجير الذي يعمل عنده، أو بين الرئيس والموظفين الذين بين يديه، أو بين رب البيت مع زوجاته، وكم يقع من الزوجة مع الخادمات في البيت، كم يقع من المعلم إلى طلابه، كم يقع الظلم في البيع والشراء؟ كم يقع الظلم على هيئة ألفاظ وأقوال ولا يشعر الإنسان بها، ويخطها أحد الملكين والآخر يشهد عليها، ويوم القيامة يجد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وأعظم الظلم أن يظن الإنسان أنه بظلمه يصنع خيراً، قال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٣ - ١٠٤].
روى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: كنت عند الكعبة فسمعت رجلا يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقال له محمد: يا هذا ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعوتك هذه.
فقال صاحب الدعوة: إنك لا تدري ما خبري، إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا تمكنت من عثمان بن عفان لطمته على وجهه ولحيته، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان على سريره في بيته، وجاء الناس يصلون عليه، دخلت في زمرة من يصلي على عثمان، حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه وكفنه ولطمته تحقيقاً لعهدي، فما رفعت يدي إلا قد شلت ويبست كأنها خشبة.
قال ابن سيرين: فأنا رأيت يده يابسة كأنها عود! وتأمل يا أخي أن الإنسان أحياناً يصل في الضلالة إلى أن يعطي الله عهداً على أن يؤذي مؤمناً، وهذا ممن قال الله فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:٨].
يأتي للأمر ويزعم أنه قربة إلى الله، وهو لا يقود إلا إلى الضلال المبين، ولا يقود إلا إلى الهلاك؛ لأنه معارض لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذين قتلوا عثمان رضي الله عنه وأرضاه قتلوه وهم يزعمون أنهم يتقربون إلى الله جل وعلا بقتله، لأنهم لما غلبت عليهم أزمة الشبهات حرموا من نعمة العقل والهداية والتوفيق فقادتهم تلك الشبهات إلى ما قادتهم إليه.
وغاية الأمر أن تعلم أن الظلم من أعظم ما يعجل الله جل وعلا به العقوبة في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا كان يعرف المعنى الحقيقي للوقوف بين يدي الله، تخلص من مظالم الناس، ولم يقع منه مظلمة في دينار ولا درهم، قال الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧].
ويقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].
لماذا يفر المرء من هؤلاء، إن الإنسان يوم القيامة لا يفر ممن لا يعرفه، إنما يفر ممن يعرفه، وهذا والله من دقائق العلم وفرائد الفوائد، وذلك لأن الشخص الذي لا تعرفه يسكن في مكان ناء عنك قلما أن تكون قد ظلمته.
لكن الذي يخالطك أنت عرضة إلى أن تظلمه، فإذا جاء يوم القيامة، ورأى الرجل أحداً كان يخالطه ويعرفه يفر منه، خوفاً من أن يكون قد ظلمه في الدنيا فيأخذ من حسناته، وهو أحوج ما يكون يومئذ إلى الحسنات، فيكون فرار الإنسان عن خلطائه، عن أمه، عن أبيه، عن إخوته، عن عشيرته، عن جيرانه؛ لأنه يخشى أن يكون قد أخطأ في حقهم، ويوم القيامة لا دينار ولا درهم، وإنما هي حسنات وسيئات، وكل أحد أحوج ما يكون إلى شعرة من حسنة، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:٨ - ٩].