[قيام ليلة القدر وطلب رحمة الله فيها]
لكن نقف هنا ونقول: يبدأ الإنسان فقهياً بالأوليات، فأول ما يبدأ في طلب ليلة القدر أن تصلي العشاء والفجر في جماعة، فلا تطلب نافلة وقد ضيعت فريضة، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:٥].
ثم يحرص الإنسان على قيام ليلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالمرغوب المطلوب الأول فيها قيامها، على أنه ينبغي أن يعلم أن عائشة تقول: (ما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها) والمعنى أنه يصلي بعض الليل ويقرأ في بعضه، ويدعو في بعضه، ويذكر الله في بعضه، ولو استراح في بعضه فلا حرج، لكن أفضل أن يستريح في مقام عبادته في مسجده أو في بيته أو في عمله، والناس يختلفون، ورب الجميع واحد، والله يطلع على القلوب لا على الأبدان، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:١٤٧].
وقبل هذه الليلة من الليل قبل أن تدخل العشر لابد أن يستشعر الإنسان أن الله رحيم، وأن الإنسان له ذنوب يرجو من الله أن يغفرها، وله عيوب يرجو من الله أن يسترها، وله آمال يرجو من الله أن يحققها، وله مخاوف يرجو من الله أن يجيره منها، وهناك جنة يرغب أن يدخلها، وهناك نار يخشى أن يمسه لهيبها، وهناك أمور وأمور لا يقدر عليها إلا الله، فيزدلف الإنسان بقلبه في المقام الأول برغبة صادقة من القلب أن الله جل وعلا يوفقه لقيام ليلة القدر.
ووالله لن تنال المطلوب، ولن تدفع المرهوب إلا برحمة من الله وفضل، فلا تتكلنّ على شيء من قوتك أبداً، وقل: اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وطول وقوة إلا حولك وقوتك، اللهم أقمني في مكان ترضى فيه عني، كان الشافعي يقول: أهمني أمر فرأيت في المنام أن طارقاً يطرقني فيقول: يا أبا عبد الله! قل في دعائك: اللهم إنني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، ووفقني اللهم لما تحب وترضى من القول والعمل، قال الشافعي: فقلتها ففرج الله عني.
والمقصود من هذا أن تزدلف إلى الله في سجودك في النهار أن يوفقك الله جل وعلا لقيام الليل، فوالله إن من تحرر من الذنوب نهاراً رزق منّة العطاء والوقوف بين يدي الله ليلاً، ومن أثقلته ذنوبه في النهار صعب عليه أن يرزق الوقوف ليلاً بين يدي الواحد القهار.
ففي النهار تعامل مع الله جل وعلا تعامل المسكين، وتعامل معه تعامل عبد له عند ربه حاجة تكون في الليل، فيحاول في النهار أن يستجر بمسكنته رحمة العظيم؛ حتى يمن الله جل وعلا عليه بالتوفيق في ليلة القدر، وادخل على والدتك وبرها وأنت ترجو ببرها رحمة الله، وقل في سجودك: اللهم وفقني لقيام ليلة القدر، وأحسن فيها مقامي بين يديك، وتوخ مسكيناً أو سائلاً أو أرملة أو يتيماً فأحسن إليه؛ عل الله جل وعلا أن يكرمك بالقيام بين يديه، وتوخ أحداً من قرنائك أو جيرانك أو أصحابك بينك وبينهم شحناء فاعف عنه، وتنازل عن حقك؛ طمعاً في أن الله جل وعلا يوفقك في القيام بين يديه.
فهذا بعض ما يمكن صنيعه وإلا باب استدرار رحمة الله جل وعلا مفتوح، فاصنعه فإذا جاء الليل لا يكن همك إلا ذنبك، ولا يكون رغبتك إلا في ربك تبارك وتعالى، فقف بين يديه اسأله وارجوه والله جل وعلا لا أحد أحب إليه المدح منه، فأكثر من الثناء عن الله، واعترف بذنبك، قال الله يعلم الأبوين آدم وحواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣].
وأثن على الله جل وعلا بما هو أهله، ثم صل ولو كنت في سجودك على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وابدأ بالعظائم، وأعظم الأمور أن يرزقك الله الجنة، وأعظم الأمور أن يجيرك الله من النار، ثم اسأل الله كما قالت عائشة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فيحاول المؤمن قدر الإمكان أن يردد هذا الدعاء المأثور عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
هذا كل ما يمكن أن يقال فقهياً عن ليلة القدر.