للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاقتداء بالرسل في محبة الله ورجائه وإجلاله]

أيها الأخ المبارك! هذه على وجه الإجمال سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، لكن ما الغرض من طرحها في لقاء كهذا؟ ينبغي أن يعلم أن الناس يحشرون يوم القيامة أحوج ما يكونون إلى ثلاثة أمور: يحشرون عراة.

أحوج ما يكونون إلى الكسوة.

ويحشرون عطشى، أحوج ما يكونون إلى الماء.

ويحشرون فتدنو منهم الشمس فهم أحوج ما يكونون إلى الظل.

فالموفق من كساه الله، ومن سقي من الحوض المورود، ومن أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، جمع الله لي ولكم هذه الثلاثة كلها.

وحتى ينال المرء ذلك لا بد أن يقتدي بسيرته، وحتى نقتدي بسيرته لا بد أن نعرف الطريق الإجمالي الكلي لحياته صلى الله عليه وسلم وحياة الأنبياء من قبله، قال الله جل وعلا ذاكراً إبراهيم وثمانية عشر نبياً بعده {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٨٣ - ٨٧].

ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠] فالعبرة كل العبرة بالاقتداء بهدي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على تعظيم الله جل جلاله، إنه لا تدرك غاية ولا ينال مطلوب ولا يدفع مرهوب إلا بالرب تبارك وتعالى، وأسعد الناس برب العباد أعظمهم وأشدهم تعظيماً له.

وما فطر الله قلب أحد على شيء أجل وأعظم من أن يفطره على أن يحب الله ويجل الله ويرجو الله، فمن جمع الله له أن يحبه ويجله ويرجوه هو العبد الموفق المسدد، وكل قلب خلا من محبة الله أو من رجاء الله أو من إجلال الله فلا خير فيه أبداً.

وما أعطى الله أنبياءه ورسله ولا الصالحين من بعدهم شيء أعظم من أن يجعل في قلوبهم أنهم لا يحبون أحداً مثله، ولا يرجون أحداً مثله، ولا يخافون أحداً مثله، ولا أحد أعلم بالله من الله، فمن أراد أن يعرف الله فليقرأ القرآن وليقرأ ثناء الله على ذاته العلية وتمجيد الرب لنفسه سبحانه وتعالى.

قال الله جل وعلا في آية جامعة مانعة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:٤٣ - ٤٤].

هذه الآية من أعظم آيات القرآن دلالة على الرب؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً هو السحاب، فجمع الله جل وعلا بالسحاب أربع نقائض: فالسحاب يكون منه الغيث، وفي نفس الوقت تكون منه الصواعق، والصواعق نار، والماء والنار لا يجتمعان فجمعهما الله جل وعلا في السحاب.

والسحاب تكون منه الظلمة إذا تراكم بعضه على بعض حتى يحجب الشمس ويحجب القمر، ويكون منه البرق، والبرق ضياء، والضياء والظلمة لا يجتمعان.

فجمع الله الماء والنار والظلمة والضياء في مخلوق واحد، ولا يقدر على هذا إلا الله.

ومن دلته المخلوقات على عظمة الله عرف الله، لأن الله عرف نفسه بطريقين: إما بذكر أسمائه أو بذكر صفاته التي منها صفات ذاتية وصفات فعلية، وكل هذه الجملة تدل على الخلاق العظيم والرب الجليل جل جلاله، فمن عرف الله لم يجهل شيئاً، ومن جهل الله لم يعرف شيئاً، وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على محبة الله جل وعلا وتعظيمه، قال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥].

وقال ربنا تبارك وتعالى يخبر عن حال الصالحين مع ربهم تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:٨٣ - ٨٤] فالغاية الأولى في الاهتداء بهدي الأنبياء المعرفة بالرب تبارك وتعالى.

لقد قبل إبراهيم أن يلقى في النار عرياناً من أجل الله، والجزاء من جنس العمل، فيكون إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:١٢٠] هذه محبة الله وتعظيمه ورجاؤه وهي أعظم صفات الأنبياء والمرسلين.