للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخاطرة الثالثة الدعاء الخالد]

الخاطرة الثالثة: الدعاء الخالد.

كلنا يعلم أن دعاء الله جل وعلا هو حقيقة عبادته، ودعاؤه تبارك وتعالى صنوان للقلوب وللنفوس، وانتظار للفرج، وقد قيل: إن أعظم العبادة انتظار فرج الله تبارك وتعالى، ولقد سطر التاريخ الإسلامي عبر قرونه المديدة أدعية كثيرة أعج بها أصحابها إلى الله جل وعلا فتجاوزت حدود الأرض وعبرت آفاق السماء، واستظلت تحت ظل العرش، وأجاب الرحمن الرحيم دعاءها ونصر أولياءه، وقرب أصفياءه.

ولكننا سنقف اليوم أمام دعاء دعا به سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأن مناسبته مناسبة عظيمة يستحضرها المؤمن في كل آن وحين، فكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قومه أول ما دعاهم في وحدة من الأمر وخلو من النصير، وغربة عن التوحيد.

فكان ربه جل وعلا قد أيده بشخصيتين؛ أيده بعمه أبي طالب رغم كفره، وأيده بزوجته خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فكان أبو طالب ظهيراً ونصيراً له في الملأ، وكانت خديجة عوناً له في الخلاء؛ لأنها ربة بيت، ثم شاء الله أن يقبض أبا طالب على كفره، وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها على إيمانها.

واشتد بعد وفاة أبي طالب أذى قريش لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فأحب عليه الصلاة والسلام أن يغير سبيل الدعوة، وأن يغير الوجوه التي يدعوها، فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه غلامه زيد بن حارثة إلى الطائف فلما خرج إلى الطائف وكله أمل ورجاء أن يستجيب أهلها له عرض دعوته على ثلاثة من زعمائها فسخروا منه أيما سخرية واستهزءوا به وهو عند الله بالمكانة العظمى، حتى قال أحدهم له: أما وجد الله أحداً يبعثه غيرك!؟ وقال آخر منهم: أنا أغير ثياب الكعبة إن كنت أنت نبياً.

فلما اشتد عليه الكرب طلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يكتموا عنه أمره، لكنهم لخسة في أنفسهم أبو فأغروا به السفهاء والصبيان، فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في طرقات الطائف، قال بعض أهل السير: ما كان عليه السلام يرفع قدمه إلا ويؤذيه الصبيان بالحجارة ولا يضع قدمه الأخرى إلا يؤذيه الصبيان بالحجارة حتى أدميت عقباه وسال دمه الطاهر الزكي الشريف على أرض الطائف.

فلما اشتد عليه الكرب أعج صلى الله عليه وسلم إلى ربه بدعاء خالد لما ضاق به أهل الأرض لجأ صلى الله عليه وسلم إلى رب الأرض والسماء، لما أعرض أهل الأرض عن نصرته، لجأ صلى الله عليه وسلم إلى العزيز الغالب أن ينصره فقال فيما سطره ابن إسحاق في السير وهو دعاء وإن لم يثبت سنداً على الوجه الأكمل إلا أنه والله الذي لا إله غيره جلال النبوة ظاهر على كل حرف فيه فضلاً عن كل كلمة، قال صلى الله عليه وسلم وهو نازل من الطائف إلى مكة بعد ما لقي من أهلها ما لقي: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين! أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى عدو يتهجمني، أم إلى بعيد ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

أعج رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء إلى ربه تبارك وتعالى، فلننظر ما صنع الله به بعد هذا الدعاء لقد تتابع مدد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا اخترت أن يكون هذا الدعاء واسطة العقد في هذه الخواطر؛ لأن كثيراً منا قرأ هذا الدعاء في طيات كتب التاريخ وقرأه في دروس السير وربما سمعه ذات مرة في محاضرة أو من المذياع أو من التلفاز، ولكن القليل منا من وقف أمام الحكمة في هذا الدعاء.

هذا الدعاء أعقبه حدثان عظيمان الأول منهما: أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف استفاق بقرن الثعالب فإذا بسحابة قد أظلته فإذا فيها جبرائيل ومعه ملك من الملائكة فسلم عليه جبرئيل وقال: يا محمد! إن ربك قد رأى صنيع قومك بك، وإن معي ملك الجبال يأتمر بأمرك فقال له ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت الساعة، فقال أرحم الخلق بالخلق، وأنصح الناس للناس، وأعظم من دعا إلى الله صلى الله عليه وسلم: (قال: لا، إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)، والعبرة التي أريد أن أقف فيها مع هذا الدعاء وهذا الأثر: أن الله جل وعلا لما عجز أهل الأرض أن ينصروا نبيه عوضه بنصرة أهل السماء، إن الله جل وعلا لما رأى خذلان أهل الأرض لنبيه صلى الله عليه وسلم عوضه بنصرة أهل السماء قبل ساعات معدودة يرفض أهل الأرض أن ينصروه، وبعد لحظات معدودة ينزل ملك كالمندوب من أهل السماء ليبين نصرة أهل السماء له صلوات الله وسلامه عليه.

الحدث الثاني: أنه مضى صلى الله عليه وسلم متجاوزاً قرن الثعالب حتى وصل وادي نخلة وهو بين الطائف ومكة قريباً من مكة، فلما وصل وقف صلى الله عليه وسلم في هدأة الليل يتهجد ويقرأ القرآن، فبعث الله جل وعلا إليه نفراً من الجن ليستمعوا إلى قراءته وكانوا على الصحيح سبعة من جن نصيبين وهي قرية بين العراق والشام، فاستمعوا له فلما استمعوا له آمنوا بدعواه، ولم يكتفوا بالإيمان بدعواه صلوات الله وسلامه عليه، بل انطلقوا في معالم الأرض وغرائبها يبلغون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دعوته، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:٢٩ - ٣٢].

والعبرة الربانية للخلق هنا: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رفض بنو قومه من الإنس أن يجيبوا دعوته عوضه الله جل وعلا بإجابة الجن لدعوته، في السابق خذله أهل الأرض فعوضه الله بأهل السماء وفي الثانية عوضه الله بعد استجابة بني قومه من الإنس إلا قليلاً منهم عوضه الله باستجابة الجن له صلوات الله وسلامه عليه، وهنا ننيخ المطايا كرة أخرى: إنه ينبغي أن يعلم كل منتسب لهذا الدين أن الله جل وعلا مظهر دينه لا محالة، ومعز جنده لا مفر من ذلك: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٣].

هذا أمر قدري شرعي لا محالة سيظهر الله دينه إن لم يكن اليوم سيكون غداً وإن لم يكن غداً فبعد غد، وما زالت في كثير من ديار المسلمين خاصة في هذا الشهر معالم الإيمان ظاهرة وواضحة ولله الحمد فما يراه المؤمن من تكالب قوى الغرب ومن تسلط أهل الشهوات ومما يعيثه أهل الفساد في الأرض كل ذلك يا أخي! إرهاصات بأن الله عز وجل سيتم كلمته ويعلي دينه وينشر لواء محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة، فما بعد العسر إلا اليسر ولا بعد الليل إلا الفجر، وتلك الساعات الحالكات التي قضاها نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن عج إلى ربه بذلك الدعاء الخالد أعقبها النصر بعد النصر، وأعقبها الظفر بعد الظفر حتى أتم الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم دينه ونزل قول الله تعالى بعد سنين عديدة عاشها صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً، أنزل الله قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣]، فلا عذر بعدئذ لأي متخاذل، ولا عذر بعدئذ لأي مقصر.

إن نصرة دين الله جل وعلا من أوجب الواجبات ومن مقدمة الأولويات وليست نصرة دين الله في الحماس المفرط ولا في الكلمات الجوفاء ولا في إثارة الدهماء، إن نصرة دين الله جل وعلا في وضع الكلمة في موضعها الصحيح وفي وضع القدم اليمنى حين نجد مكاناً للقدم اليسرى وحين نخطو خطوات ثابتة واثقة على بينة من كتاب ربنا وعلى هدي من رسولنا صلى الله عليه وسلم، عندها يعز الله بنا دينه، ويرفع الله جل وعلا بنا دينه، ويعلي بنا بإذنه تبارك وتعالى كلمته.