[تفسير قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين إلى آخر السورة]
ثم بعد أن بين الله جل وعلا هذا كله ذكر مآل الجميع بعد أن قسمهم إلى ثلاثة أصناف، قال ربنا:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الواقعة:٨٨]، والمقصود بالمقربين هنا -والعلم عند الله- فيما يظهر: أنهم من يدخلون الجنة بغير حساب، وهؤلاء هم المنادون أولاً بقول الله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء:١٠١ - ١٠٢].
قال:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ}[الواقعة:٨٨ - ٨٩] أي: يستريحون من عناء الدنيا، والله جل وعلا خلق الدنيا مطبوعة على الكدر كما قال سبحانه:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:٤]، فهذا نبي الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم يُرزق بسبع بنين وبنات، يموت منهم ستة أمام عينيه صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى أحد يحيا بعده إلا فاطمة رضوان الله تعالى على أبناء وبنات رسولنا صلى الله عليه وسلم أجمعين، فرأى صلى الله عليه وسلم أبناءه وبناته يمتن ويموتون وهو حي يُرزق، ولم يبق له إلا فاطمة التي ماتت بعده بستة أشهر، وشج رأسه يوم أحد، وكسرت رباعيته، ولما أتم الله له الدين وأظهر له النعمة، وقال له:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[المائدة:٣] جاءته الآيات تخبر بقرب أجله ودنو رحيله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:١ - ٣]، فإذا لقي المؤمن ربه جل وعلا وجد الراحة الكبرى، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله.
ومن يرجو راحة قبل لقاء الله فإنما يبحث عن شيء غير موجود، اللهم إلا أن تكون راحته -وهذا الذي ينبغي- في أنه يرضى بقدر الله قال ربنا:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[النحل:٩٧] والحياة الطيبة: أن يرضى الإنسان بقدر الله.
قال:{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:٨٩ - ٩٠] وأجمل ربنا هنا فقال: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:٩١]؛ لأنهم يحيون في دار سلام، فبدهي أن ينطقوا بالسلام.
ثم ذكر جل وعلا العصاة المتمردين على ربهم، والخارجين عن طاعته فقال جل شأنه:{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}[الواقعة:٩٢ - ٩٤] وحتى لا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك قال أصدق القائلين جل جلاله:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}[الواقعة:٩٥]، ثم ختم الله جل وعلا هذه الآيات بالوصية العظيمة:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:٧٤]، والمعنى: نزِّه ربك جل وعلا عمّا لا يليق به، وغاية ما قاله أئمة أهل الشأن في هذا الباب أن يقال: إن الله غني عن طاعة كل أحد، فإذا نزّهت ربك عمّا لا يليق به فتشعر بالطهر والنقاء والصفاء، وإلا فربنا جل جلاله لا تنفعه طاعة طائع، ولا تضره معصية عاص.
هذا مجمل ما دلت عليه هذه السورة المباركة؛ سورة الواقعة، وقفنا معها وقفة إجمالية، حاولنا أن نصل بها معكم إلى ما يمكن أن يعيننا على طاعة الله جل وعلا.