للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخاطرة الأولى إذعان القلوب لعلام الغيوب]

إن الحمد لله، نحمده حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، له الأمر كله، وله الحمد كله، وله الملك كله، وإليه جل وعلا يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره، ولا إله سواه، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجعله ربه بفضل منه ورحمة خير أهل أرضه وسماواته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار، المبلغين عن الله دينه، والناشرين له كلماته، اللهم وأعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها المؤمنون! خواطرنا الإيمانية في هذا المساء المبارك ذات عنوانين رئيسة خمسة: ألا وهي إذعان القلوب لعلام الغيوب، إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، الدعاء الخالد حين تطغى الشهوات، وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هلم إلى التوبة.

وهذه الخواطر إيمانية وإن تنوعت عناوينها، وتعددت موضوعاتها، وتباين المراد منها، فإنما تنصب جميعاً في نهر الإيمان الكبير، وفي بحر اليقين بالله جل جلاله، وفي الطريق الموصل إلى رضوانه تبارك وتعالى، وذلك مراد المؤمنين، وغاية المتقين بلا ريب.

معشر الأحبة! لقد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان به قسيماً بين أهل الجنة والنار فقال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٧ - ٢٩].

فهلم أيها المؤمنون! بقلوب لا تبتغي إلا وجه الله نستعين ربنا تبارك وتعالى في هذه الخواطر الإيمانية وأول هذه الخواطر: إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله.

معشر الأحبة! إن الحديث عن الله تبارك وتعالى حديث عن خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، حديث عمن يعلم السر وأخفى، حديث عن من يكشف الضر والبلوى، حديث عن من رد إلى يعقوب بنيه، وأرجع موسى إلى أمه، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، حديث عمن بلغ محمد صلى الله عليه وسلم دعوته، وأكمل له دينه، ونشر له ملته، وأعلن كلمته في الأرض، فما بقيت دار إلا ودخلها دين سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم.

الحديث عن الله أيها المؤمنون! له تخفق قلوب الموحدين، وله ترتجف قلوب المتقين؛ لأنه حديث عن خالقها ورازقها وبارئها تبارك وتعالى، والحديث عنه جل جلاله ينبغي أن يكون حديثاً محبباً إلى النفوس؛ لأنه تبارك وتعالى أحب إلينا من كل شيء: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦ - ٨].

أما إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى فإن من دلائل إذعان القلوب لربها تبارك وتعالى أمور ثلاثة: أولها: الاستسلام لأمره والانقياد له، وثانيها: التواضع له تبارك وتعالى، وثالثها: خشيته جل وعلا في الغيب والشهادة.

أما الاستسلام لأمر الله والانقياد له: فإن الله تبارك وتعالى ضرب لهذا الأمر مثلاً في القرآن في أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تبارك وتعالى عنه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:١٣٠ - ١٣١].

لم يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة ولم يسأل ربه كيف أسلم؟ وإلى من أتوجه؟ وعند من أدون اسمي؟ وعلام؟ وما الجزاء وعلام أذهب؟ وإلى من أغدو؟ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:١٣١]، وهذا الأثر القرآني الذي حكاه الله عن انقياد إبراهيم واستسلامه أيدته السنة كما روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا أمر إبراهيم أن يختتن)، فبادر إبراهيم عندما أمره الله أن يختتن بادر عليه الصلاة والسلام إلى القدوم ثم اختتن به.

وقد ورد في بعض الآثار كما ذكر ذلك الكثير من شراح هذا الحديث: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بادر إلى القدوم واختتن به أوجعه أشد الإيجاع، فأوحى الله تعالى إليه: (يا إبراهيم لم عجلت حتى يأتيك وحيي؟! فقال: يا رب! خشيت أن أؤخر أمرك)، فما أن أمره الله جل وعلا بالأمر إلا وأذعن واستسلم له وانقاد إليه دون أن يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة في الإذعان لربه علام الغيوب جل جلاله.

وهذا من أعظم الدلائل على ما فطر عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الاستسلام لله، بعد هذا لا غرو ولا عجب أن نسمع في القرآن ثناء الله تبارك وتعالى على إبراهيم ونسمع في القرآن أن الله جل وعلا أخبر: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٠]، ونسمع من رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة)، فهذا الثناء العطر الذي أبقاه الله لإبراهيم في الآخرين، وما له عند الله جل وعلا يوم القيامة من منزلة عظيمة إنما نالها هذا العبد الصالح وهذا النبي التقي بإذعانه وانقياده واستسلامه لرب العالمين تبارك وتعالى.

ومما يؤيد أن القلوب المؤمنة إنما تمتثل لأمر الله دون تردد أنه ورد في الآثار كما هو معلوم: أن الله جل وعلا خلق آدم من تراب قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:٢٠]، ورد في الآثار مما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لما أراد أن يخلق آدم من قبضة من الأرض بعث ملكاً من الملائكة ليقبض له قبضة من الأرض، فلما قدم هذا الملك إلى الأرض قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم! وعاد إلى ربه دون أن يقبض من الأرض شيئاً، فلما سأله ربه وهو أعلم بما صنع قال: يا رب! لقد استعاذت بك فأعذتها.

فبعث الله ملكاً آخر فلما وصل إلى الأرض وهم أن يقبض منها قبضاً كما أمره الله، قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع إلى ربه، فلما سأله ربه وهو أعلم، قال: يا رب! استعاذت بك فأعذتها، فبعث الله ملكاً ثالثاً: فلما هم بأن يقبض من الأرض قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره، فأخذ قبضة من الأرض وعرج بها إلى السماء.

والمقصود منه: الإذعان لأمر رب العالمين تبارك وتعالى.

والذي ينبغي أن تفطر عليه قلوبنا وأفئدتنا وجوارحنا أن تستسلم لله وأمره، وأن تعظم ربها تبارك وتعالى، يحكي الله جل وعلا في القرآن عن تعظيم ملائكته له فيقول تبارك وتعالى عنهم: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣]، قال بعض الأئمة في تفسيرها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه السلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، فيمضي جبرائيل بالأمر على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟! فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير).

والغاية من هذا كله يا أخي! أن تذعن قلوبنا لعلام الغيوب جل جلاله، فنسمع النداء: حي على الصلاة! حي على الفلاح! فنبادر إلى المسجدن كما تقول عائشة لما سئلت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: (ما كان يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا سمع النداء مر كأنه لا يعرفنا)، أي: أنه يبادر ويسارع إلى الصلاة، نسمع أمر الله جل وعلا لنا بأن نذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:١٥٢]، فلا نعرج على ألسنتنا بالقيل والقال، ولا بالغيبة في المسلمين، ولا بالنميمة بينهم، ولا نردد قول فلان وفلان! من أهل الفن أو من غيرهم، وإنما نذكر ربنا جل وعلا مبادرة ومسارعة؛ لأنه بذلك أمرنا تبارك وتعالى.

يسمع أهل الثراء منا أمر الله جل وعلا بالإنفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:٢٥٤]، فيبادرون إلى الإنفاق طمعاً فيما عند الله، وإذعاناً لأمره تبارك وتعالى في المقام الأول.

وعلى هذا قف يا أخي! بقية الطاعات والمسارعة في الخيرات، ألا وإن من إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله: التواضع لله تبارك وتعالى، وأجمل ما يكون التواضع عند حلول النعمة، وحلول الظفر والنصر، وحلول المقصود والمراد، فهنا يظهر الإذعان لرب العالمين تبارك وتعالى، ولن ينبئ الإنسان عن شكره لله واعترافه بأن ما لديه هو من فضل الله تبارك وتعالى، وأن ما أصابه من نعمة إنما هو من ربه جل وعلا حتى يظهر لله تبارك وتعالى تواضعه.

فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم طرده قومه من مكة فدخلها بعد عشر سنوات من الهجرة، وبعد عشرين عاماً من بعثته صلى الله عليه وسلم حوصر في شعب أبي طالب، واختفى في