ومن جملة ما أدب الله جل وعلا به نبيه وأرشد إليه خلقه في هذه السورة المباركة قوله جل وعلا:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:٣٦].
إن كون الإنسان يعطى حظاً من علم دلالة على توفيق الرب تبارك وتعالى له، ولكن الله يخاطب في هذه الآية أعلم الخلق بالله -نبينا صلى الله عليه وسلم- فيقول له:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:٣٦] وإن من أعظم الكذب: أن يكذب الإنسان ويفتري على الرب تبارك وتعالى، ومن رزق العلم الحق رزق الخشية، ومن رزق الخشية خاف أن يقول على الله ما ليس به علم.
فبادره وخذ بالجد فيه فإن آتاكه الله انتفعتا فإن أوتيت فيه طويل باعٍ وقال الناس إنك قد رؤستا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخٍ علمت فهل عملتا؟ ذكر الناس أن العرب في جاهليتهم كانوا يعمدون إلى رجل يقال له: عامر بن الضرب العدواني يحتكمون إليه في جاهليتهم إذا اختلفوا، فجاءه مرةً وفد من إحدى القبائل، فقالوا: يا عامر! وجد بيننا شخصاً له آلتان: آلة الرجل وآلة الأنثى، ونريد أن نورثه، فهل نحكم له على أنه أنثى أو نحكم على أنه ذكر؟ فمكث هذا الرجل المشرك أربعين يوماً لا يدري ما يصنع بهم، وكانت له جاريه ترعى له الغنم يقال لها: سخيلة، فقالت له في اليوم الأربعين: يا عامر! قد أكل الضيوف غنمك ولم يبقَ لك إلا اليسير، أخبرني.
فقال: مالكِ ولهذا، انصرفي لرعي الغنم، فأصرت عليه، فلما أصرت عليه الجارية أخبرها بالسؤال وقال لها: ما نزل بي مثلها نازلة، فقالت له تلك الجارية التي ترعى الغنم: يا عامر! أين أنت؟ أتبع الحكم المبال.
أي: إن كان يبول من آلة الذكر فاحكم عليه بأنه ذكر، وإن كان يبول من آلة الأنثى فاحكم عليه بأنه أنثى.
فقال: فرجتها عني يا سخيلة.
وأخبر الناس.
قال الإمام الأوزاعي رحمه الله معقباً على هذه القصة: هذا رجل مشرك لا يرجو جنة ولا يخاف من نار ولا يعبد الله، ويتوقف في مسألة أربعين يوماً حتى يفتي فيها، فكيف بمن يرجوا الجنة ويخاف النار؟! فينبغي عليه أن يتحرى إذا صُدِّر للإفتاء، ولقد أدركنا شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عندنا أنه جاءه وفد من الكويت يسألونه عن مسائل شرعية، والرجل في آخر أيام حياته، ولو قال قائل: إنه ليس على وجه الأرض آنذاك أحد أعلم منه لما ابتعد عن الصواب، ومع ذلك لما سألوه قال: لا أدري لا أدري لا أدري، فلما أكثروا عليه غَيَّر هيئة جلسته ثم قال: أجيب فيها بكتاب الله، فانتظر الناس الجواب، فقال -رحمه الله وغفر الله له-: أقول كما قال الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:٣٦]، فلما أكثروا عليه رحمه الله قال: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، أما أنا فلا أحمل ذمتي من كلام الناس شيئاً، لا أدري، قال هذا وهو هو في منزلته وعلمه.
والمقصود أن في هذا موعظة لكل من صدره الله، فلا يغتر بكثرة حضور الناس له، ولا يجب عليك أن تُجيب إن كنت لا تعلم، ولقد قالت الملائكة عند ربها:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة:٣٢].
ومن دلائل الخشية والتقوى: أن لا يقترب الإنسان من هذه الحُجز، وأن يقف عند ما أوقفه الله جل وعلا عليه، فلا يقول على عينه ما لم ترَ، ولا يقول على سمعه ما لم يسمع، ولا يتحدث على لسانه ما لم يقل، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:٣٦].