[تحريم الظلم وسفك الدماء]
ثانية العظات في خبر مقتل هذين الصحابيين: أن الظلم حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ففي الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وقد دلت آيات كثر وأحاديث صريحة صحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم على تحريم الظلم.
وأعظم الظلم سفك الدماء، أو التعرض لأعراض المؤمنين أو الخوض فيما لا داعي له مما ينجم عنه ضرر كبير على المؤمن أياً كان.
كل ذلك حذر منه صلوات الله وسلامة عليه، وبعث معاذاً إلى اليمن وهو يوصيه، وهم يومئذٍ أهل كتاب: (واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وأكثر ما يظهر هذا الأمر في قتل علي وعثمان: ما رواه البخاري في تاريخه بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: (كنت عند الكعبة: فسمعت رجلاً يدعو: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقلت: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال الرجل: إنك لا تدري إنني قد كنت أعطيت الله عهداً أنني إذا رأيت عثمان أن ألطم وجهه، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان على سريره في بيته، ودخل الناس يصلون عليه دخلت عليه فيمن دخل كأنني أريد الصلاة عليه، فلما وجدت في الأمر خلوة كشفت عن كفنه ثم لطمته على وجهه ولحيته وهو ميت، قال: فما رفعت يدي إلا وهي يابسة، قد شلت كأنها عود، قال ابن سيرين رحمه الله: فأنا نظرت إلى يده قد شلت كأنها عود! {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٧].
عباد الله! حرم الله الظلم لأن الظالم إنما يظلم لقدرته الوظيفية، لأمرته، لسلطانه، لجنديته، لكونه زوجاً متسلطاً أو ولياً على أيتام، فإن الظالم عندما يظلم كأنه يتناسى أن الله جل وعلا مطلع عليه، وأن الله جل وعلا عزيز ذو انتقام، وأن الله جل وعلا أقدر منه على هذا الذي ظلمه واستضعفه وسفك دمه أو سلبه ماله أو غير ذلك من صور الظلم التي وقعت! فاتقوا الله أيها المؤمنون! فيما تقولون وتفعلون، ولا تدفعنك قدرتك على ظلم أحد أن تظلمه، واعلم أن الله جل وعلا أقدر عليك من كل أحد أنت قادر عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤].
فمن عظم الله جل وعلا في قلبه، فإنه يتذكر جلال الله وذلة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال قبل أن يظلم، سواء كان بين يديه أجير أو خادمة أو خادم أو سائق أو موظف أو جندي أو غيره.
وإذا خفت الله فيه فإنك من الآمنين يوم القيامة، أما إذا تجرأت على محارم الله وحدوده فقلت بلسانك أو فعلت بيدك أو بسلطانك أو بتوقيعك أو بأي شيء تقدر عليه، ما تظلم به العباد، كنت خائفاً وجلاً بين يدي الله جل وعلا، فلا يجادل الله عنك أحد يوم القيامة، يقول جل شأنه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦].
وقد ذكرنا مراراً أن المرء يفر يوم القيامة من قرابته وممن يحيطون به في الدنيا؛ لأنه يخاف أن تكون عليه مظلمة لهم فيتسببون في هلاكه بأخذهم لحسناته، أما البعداء من الناس الذين لم يرهم ولم يروه، فإن الإنسان لا يفر منهم يوم القيامة غالباً؛ لأنه لا يرى أنه قد ظلمهم ذات يوم، أو تعرض لهم بأخذ دينار ولا نقص درهم.
فمن اتقى الله جل وعلا ساد وأفلح، ومن عصى الله جل وعلا وتجرأ على محارمه كان الله جل وعلا له بالمرصاد، إلا أن تتداركه رحمة الله فيتوب ويئوب إلى رب العزة والجلال، وقانا الله وإياكم الشر كله أوله وآخره.
عباد الله! هذا ما تيسر قوله وتهيأ إيراده والله المستعان، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.