للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب قتل المؤمنين بعضهم لبعض]

وقتل المؤمنين وسفك دمائهم ينشأ بسببين: السبب الأول: خطأ في التفكير.

والسبب الثاني: حقد وغل في القلوب.

أما الخطأ في التفكير فإن الإنسان والعياذ بالله قد يلتبس عليه الباطل والحق, فيظن الباطل حقاً والحق باطلاً, فيتأول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى يجد منها حسب ظنه وجهله وعلمه المزعوم سبيلاً إلى سفك دماء المسلمين، فيكفر في أول الأمر ثم إذا كفر المؤمنين استباح دماءهم عياذاً بالله.

وقد يقع هذا من شتى الفرق وشتى الطوائف وشتى المنازل وبيان هذا على وجه التفصيل: فعثمان رضي الله عنه أمير المؤمنين, وثالث الراشدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حقه: (أحيا أمتي عثمان) , ويقول في حقه أيضاً: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟).

ومع ذلك طعن رضي الله عنه وقتل في داره بعد أن أحرقت الدار, والذين تسللوا إلى بيت عثمان كانوا يزعمون الإيمان, ويزعمون أن عثمان على باطل، حتى أن عمرو بن الحمق الذي قتل عثمان طعن عثمان تسع طعنات, وعثمان يومئذ قد جاوز الثمانين رضي الله عنه وأرضاه, ثم قال بعد أن خرج: طعنته ثلاث طعنات لله، وتسع طعنات لما في قلبي عليه من الغل.

فهذا الخطأ في التفكير هو الذي صور لهذا الرجل أن يقتل رجلاً في منزلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

وما علي عن عثمان ببعيد، فالذي قتل علياً رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن ملجم كانت آثار السجود بادية على محيا وجهه وعلى ركبتيه, صواماً قواماً لا يراه الناس يفتر عن ذكر الله جل وعلا, لكنه لم يؤت من باب العبادة, أوتي من باب التكفير فكان يظن أن قتل علي أمراً مشروعاً, فعمد إلى سيف يعرضه على الناس, هل تجدون له عيباً, فكلما أخبره أحد بعيب أصلح ذلك العيب, ثم وضعه في طست فيه سم حتى لفظ السم الحديد، ثم خرج يوم خروج علي رضي الله عنه لصلاة الفجر فضربه به.

فحمل علي رضي الله عنه إلى بيته وبه رمق من حياة, وحمل عبد الرحمن بن ملجم بين يديه، فقال علي رضي الله عنه لـ عبد الرحمن: أأسأت إليك قط؟ قال: لا, قال: فما حملك على ما فعلت؟ فقال هذا الرجل الضال: إنني اكتنزت سيفي هذا منذ أربعين يوماً، وأنا أسأل الله أن يقتل به شر خلقه, ويظن أن دعاءه مستجاب.

فقال له علي رضي الله تعالى عنه: بل أنت من شر خلق الله, وما أظنك إلا مقتولاً بسيفك هذا, فقتل عبد الرحمن بعد موت علي بنفس سيفه الذي اكتنزه ليقتل به علياً رضي الله عنه.

أين غاب عقل هذا الرجل وهو يقتل رجلاً في منزلة علي؟ إن الخطأ في التفكير يدعو إلى التكفير, والدعوة إلى التكفير ينجم منها سفك دماء المسلمين، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب سداً منيعاً, فقال لـ أسامة رضي الله عنه كما عند مسلم وغيره, لما كان في غزوة الحرقات مكن جهينة خرج رجل منهم وأسامة رضي الله عنه يلحقه بالسيف, فلما رأى الرجل أسامة يتبعه، ألقى السيف وقال: لا إله إلا الله, فغلب على ظن أسامة أن هذا الرجل قالها فرقاً من السيف, فقتله ثم قص الخبر على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: نعم, قال: كيف أنت بلا إله إلا الله يوم القيامة) وما زال النبي يكررها, وأسامة يندم حتى قال أسامة: تمنيت لو أنني لم أسلم إلا بعد ذلك اليوم.

الحالة الثانية التي ينجم عنها سفك الدماء: أن يكون الإنسان -والعياذ بالله- مطبوعاً على الشر وحوله من القرابة أو من الرفقة أو من الصداقة أو من رفقاء السوء ما يؤجج الغضب في نفسه، ولهذا ينبغي لكل أب ومرب ومعلم أن يربي أبناءه على حرمة أعراض ودماء وأموال المسلمين.

فلا يأتيك ابنك يخبرك أن ابن الجار غلبه فتشجع ابنك على الانتقام، وتخبره أن الأبواب موصدة إن لم ينتقم لنفسه، وقضية: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

من أعظم خطايانا في التربية, وكم من أناس ونعرف بعضهم بأسمائهم وصفاتهم شجعوا غيرهم على سفك الدماء، وطلبوا منهم أخذ الثأر, وهولوا في أنفسهم المعاصي واستباحوا دماء المسلمين, فلما وقع المغرر بهم في المحظور وسفك الدم، وحمل إلى السجن فأول من تخلى عنه من كانوا يؤججون الغضب في صدره وهم قرابته وعصبته وعشيرته وأهله وعائلته وقبيلته التي كانت تدعمه فأخذت تتخلى حتى عن زيارته, ويقاد إلى موضع القصاص وحيداً فريداً ليس معه إلا عمله, وبئس العمل أن تلقى الله وقد سفكت دم مسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أول ما يقضى به بين الناس يومئذ الدماء, حتى إن المقتول ليأخذ بعنق القاتل حتى يدنيه من رب العزة ويقول: يا رب! سل عبدك هذا: فيم قتلني؟).

وقد قال العلماء: الدواوين ثلاثة, ديوان شرك لا يغفره الله جل وعلا, وديوان معاصٍ بين العبد وبين ربه لا يعبأ الله به يغفر الله فيه لمن يشاء, وديوان لا يتركه الله جل وعلا أبداً وهي ما بين العباد من خصومات بعضهم ببعض.

وصفوة القول والحديث: أن نعلم أن كل من حمل كلمة التوحيد في قلبه، وجاء بالإيمان بالأركان الستة فهو مسلم لنا ظاهر قوله وإيمانه, وسرائره نكلها إلى الله جل وعلا, وبيننا وبين دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم سداً منيعاً.

ثنتان لا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس وكلما كان الإنسان سمحاً رءوفاً رحيماً بعباد الله الصالحين يقيل العثرة، ويعفو عن الزلة, ويقبل العذر, شفيقاً رحيماً بهذه الأمة كان أقرب إلى الله وأدنى من مجالس سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه.

فإن والعياذ بالله قد ملئ قلبه حنقاً وبغضاً وظلماً وعدواناً ساقه ذلك إلى خزي الدنيا وإلى عذاب النار, أجارنا الله من هاتين الاثنتين, ومن كل سوء.

هذا ما تيسر إيراده ووفق الله جل وعلا إلى قوله, والله المستعان وعليه البلاغ.

وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين.